۰.وَاستَعمِلني بِطاعَتِكَ وطاعَةِ رَسولِكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللّه ُ عَلَيهِ وآلِهِ أبَدا مَا استَعمَرتَني «434 »وَاجعَلني مِن أوفَرِ عِبادِكَ عِندَكَ نَصيبا في كُلِّ خَيرٍ أنزَلتَهُ وتُنزِلُهُ ، في شَهرِ رَمَضانَ في لَيلَةِ القَدرِ ، وما أنتَ مُنزِلُهُ في كُلِّ سَنَةٍ «435 » مِن رَحمَةٍ تَنشُرُها ، وعافِيَةٍ تُلبِسُها ، وبَلِيَّةٍ تَدفَعُها ، وحَسَناتٍ تَتَقَبَّلُها ، وسَيِّئاتٍ تَتَجاوَزُ عَنها «436 »وَارزُقني حَجَّ بَيتِكَ الحَرامِ في عامي هذا وفي كُلِّ عامٍ «437 »وَارزُقني رِزقا واسِعا مِن فَضلِكَ الواسِعِ «438 »
«واستعملني» استعمله ؛ أي جعله عاملاً ، سأله أن يعمل والعمل كلّ فعل يكون من الحيوان بقصد ، فهو أخصّ من الفعل ؛ لأنّ الفعل قد يُنسب إلى الحيوانات الّتي يقع منها فعل بغير قصد ، وقد ينسب إلى الجمادات . ۱
«بطاعتك» أي وفّقني العمل فيما تريد منّي ، وفي الصحيفة : «واستعمل بدني فيما تقبله منّي» ، ۲ و«واستعملني بما تستعمل به خالصتك» ، ۳ و«اللّهمّ... واستعملني بالطاعة» ، ۴ و«واستعملني بما تسألني غدا عن» . ۵
هذه كلّها حوائج مختلفة ، فإنّ العمل بالطاعة له شؤون مختلفة من كونه مقبولاً ، أو كونه بحيث يصدر من المخلصين ، أو كونه ممّا يُسأل عنه غدا.
«وطاعة رسولك محمّد صلى الله عليه و آله » فيما يأمر به النبيّ صلى الله عليه و آله وينهى عنه ، أو فيما يريده ، سواء كان أمر به أم لا ، ولعلّ المراد بطاعة اللّه فيما أمر به أو نهى عنه ، والمراد بطاعة الرسول هو فيما يأمر به وينهى عنه في غير الواجب والحرام الإلهيّ ، كما قيل في : «أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ » ، ۶ وإن كان يرجع كلّ ذلك إلى أمر اللّه تعالى ونهيه بقوله عزّ وجلّ : «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » ، ۷ وقوله سبحانه : «وَمايَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى » ، ۸ وقوله تعالى : «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّه ُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ » ، ۹ وقوله تعالى : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ » ، ۱۰ إلى غير ذلك من الآيات المباركات.
«أبدا ما استعمرتني» استعمره في المكان : جعله يعمره ، قال سبحانه : «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها »۱۱ أي طلب منكم العمارة ، أو عمّركم فيها واستبقاكم من العمر . يعني واجعلني في طاعتك وطاعة رسولك ما استبقيتني واستحييتني.
«واجعلني من أوفر عبادك» من وفر المال من باب ضرب ؛ أي كثر واتّسع وتمّ وكمل ، أي اجعلني من أكثر وأوسع عبادك.
«نصيبا» النصيب : الحظّ والحصّة .
«في كلّ خير» الخير : ما يرغب فيه الكلّ ، والخير ضربان : خير مطلق وهو أن يكون مرغوبا فيه بكلّ حال وعند كلّ أحد ، كما وصف عليه السلام به الجنّة فقال : «لا ۱۲ خير بخير بعده النار ، ولا شرّ بشرّ بعده الجنّة» ، ۱۳ وخير وشرّ مقيّدان ، وهو أن يكون خير الواحد شرّا لآخر . ۱۴
«أنزلته وتنزله» قال الراغب : «النزول في الأصل هو انحطاط من علوّ ، يقال : نزل عن دابّته ونزل في مكان كذا ؛ حطّ رحله فيه ، وأنزله غيره ... وإنزال اللّه تعالى نعمه ونقمه على الخلق إعطاؤهم إيّاها... والفرق بين الإنزال والتنزيل في وصف القرآن والملائكة ، أنّ التنزيل يختصّ بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرّقا ومرّة بعد أُخرى ، والإنزال عامّ . ۱۵
«في شهر رمضان» الشهر : مدّة مشهورة بإهلال الهلال ، أو باعتبار جزء من اثني عشر جزءا من دوران الشمس من نقطة إلى تلك النقطة ، قال سبحانه : «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّه ِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّه ِ » ، ۱۶ سُمّي به لأنّه يشهر بالقمر .
رمضان : هو من الرمض ، أي شدّة وقع الشمس ، يقال : أرمضته فرمض ؛ أي أحرقته الرمضاء ، ۱۷ قيل : سمّي بذلك لأنّ وضعه وافق الرمض بالتحريك ، وهو شدّة وقع الشمس على الرمل .
وفي المجمع : «قال بعض العلماء : يُكره أن يقال : جاء رمضان وشبهه إذا أُريد به الشهر وليس معه قرينة تدلّ عليه ، وإنّما يقال : جاء شهر رمضان ، واستدلّ بحديث : لا تقولوا رمضان ؛ فإنّ رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى ، ولكن قولوا شهر رمضان ، ۱۸ قال : وهذا الحديث ضعّفه البيهقي ، وضعفه ظاهر ؛ لأنّه لم ينقل عن أحد من العلماء أنّ رمضان من أسماء اللّه ... وهو مرغوب عنه فإنّ كثير من أحاديث أهل الحقّ النهي عن التلفّظ برمضان من دون إضافة الشهر تعليلاً بأنّه اسم من أسمائه تعالى» . ۱۹
أقول : الخيرات النازلة في شهر رمضان كثيرة ، إذا أردت الوقوف على ذلك فعليك بالخطبة الّتي ألقاها رسول اللّه صلى الله عليه و آله في آخر جمعة من شعبان ، والأحاديث الواردة في فضل شهر رمضان ودعاؤه عليه السلام في الصحيفة في دخول شهر رمضان وفي وداعه . ۲۰
«في ليلة القدر» خصّ ليلة القدر بالذكر وإن كان الخير في كلّ أيّام شهر رمضان ولياليه كثيرة كما لا يخفى على من راجع الأحاديث ؛ لما فيها من الخيرات متوافرة متظافرة .
قال سبحانه وتعالى : «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ » . ۲۱
وقال : «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ » . ۲۲
فيستفاد أنّ ليلة القدر هي في شهر رمضان ، وليلة القدر عظيمة لا يعرف الإنسان عظمتها ، وهي خير من ألف شهر ، فيها تنزّل الملائكة والروح بإذن ربّهم من كلّ أمر ، وهي سلام حتّى مطلع الفجر ، وهي نزلت فيها القرآن ، وهي ليلة مباركة ، كما قال تعالى : «إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ * فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ » ، ۲۳ وفيها نزلت التوراة ، وفيها نزل الإنجيل وفيها نزل الزبور ، ۲۴ وفيها يفرق كلّ أمر حكيم.
روى منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : «الليلة الّتي يفرق فيها كلّ أمر حكيم ، ينزل فيها ما يكون في السنة إلى مثلها من خير أو شرّ أو رزق أو أمر أو موت أو حياة ، ويكتب فيها وفد مكّة ، فمن كان في تلك السنة مكتوبا لم يستطع أن يحبس وإن كان فقيرا مريضا ، ومن لم يكن فيها مكتوبا لم يستطع أن يحجّ وإن كان غنيّا صحيحا» . ۲۵
وروى عبد اللّه بن سنان قال : «قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إذا كان ليلة تسع عشرة من شهر رمضان أُنزلت صِكّاك الحاجّ ، وكُتبت الآجال والأرزاق ، وأطلع اللّه على خلقه ، فيغفر لكلّ مؤمن ما خلا شارب مسكر أو صارم رحم ماسّة مؤمنة . ۲۶
«وما أنت منزله في كلّ سنة» في كلّ السنة أيّامها ولياليها ومواقفها الخاصّة ، هذه الجملة تفيد معنىً استمراريّا ، أي ما من شأنك إنزاله .
«من رحمة» بالفتح والسكون ويحرّك : رقّة القلب وانعطاف يقتضي التفضّل ، والإحسان والمغفرة ، والمراد هنا ما يتحقّق به الإحسان والتفضّل كإنزال المطر والرزق والنعم المادّية والمعنوية.
«تنشرها» النشر : البسط ، خلاف الطيّ .
«وعافية تلبسها» ، العافية : السلامة والصحّة التامّة ، مصدر عافا أو اسم منه وُضع موضع المصدر.
قال ابن الأثير : «والعافية أن تسلم من الأسقام والبلايا ، وهي الصحّة وضدّ المرض ، ونظيرها : الثاغية والراغية بمعنى الثغاء والرغاء . ۲۷ وتلبسها من لبس الثوب ؛ أي استتر به ، وأصل اللّبس الستر ، شبّه بلباس يلبسه الإنسان ويستر بدنه به ، فكأنّ العافية والسلامة أحاطت به وسترته وهو فعل اللّه تعالى بعبده أن يلبسه لباس العافية ، كما في الدعاء : «وعافية ألبستها» ، ۲۸ و«ألبسني عافيتك» ، ۲۹ و«سربلني بسربال عافيتك» ، ۳۰ و«جلّلني بعافيتك ، وحصّني بعافيتك ، وأكرمني بعافيتك ، وأغنني بعافيتك» . ۳۱
وفي الحديث عن الصادق عليه السلام قال : «العافية نعمة خفيّة إذا وُجدت نسيت ، وإذا فُقدت ذُكرت» ، ۳۲ وقال : «العافية نعمة يعجز الشكر عنها» . ۳۳
روي أنّ النبي صلى الله عليه و آله دخل على مريض فقال : «ما شأنك ؟ قال : صلّيت بنا صلاة الغداة فقرأت القارعة ، فقلت : اللّهمّ إن كان لي عندك ذنب تريد أن تعذّبني به في الآخرة فعجّل ذلك في الدنيا ، فصرت كماترى ، فقال صلى الله عليه و آله : بئسما قلت ، ألا قلت : «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الآْخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ » . ۳۴ فدعا له حتّى أفاق . وقال النبي صلى الله عليه و آله : الحسنة في الدنيا الصحّة والعافية ، وفي الآخرة المغفرة والرحمة» . ۳۵
وفي قرب الإسناد عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عليهماالسلام : «إنّ للّه تبارك وتعالى ضنائن ۳۶ من خلقه ، يغذوهم بنعمته ، ويحبوهم بعافيته ، ويدخلهم الجنّة برحمته ، تمرّ بهم البلايا والفتن مثل الرياح ما تضرّهم شيئا» . ۳۷
أقول : وأقول كما قال الإمام علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما) : «اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، وألبسني عافيتك ، وجلّلني عافيتك ، وحصّني بعافيتك وأكرمني بعافيتك ، وأغنني بعافيتك ، وهب لي عافيتك ، وأفرشني عافيتك ، وتصدّق عليّ بعافيتك ، وأصلح لي عافيتك ، ولا تفرّق بيني وبين عافيتك في الدنيا والآخرة» . ۳۸
«وبليّة تدفعها» البليّة من بلاه يبلوه من باب نصر : جرّبه واختبره ، وابتلاه أي اختبره ، والبلاء : الغمّ والاختبار ، والبليّة : البلوى والاختبار.
«وحسنات تتقبّلها» الحسنة يعبّر بها عن كلّ ما يسرّ من نعمة تنال الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله ، والمراد هنا الأعمال الحسنة التي تصدر من الإنسان ، قال سبحانه : «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها » ، ۳۹ و «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها » ، ۴۰ والحسنة اسم للأعلى في الحسن ودخول الهاء للمبالغة ، قال علي بن عيسى : دخول الهاء يدل على أنّها طاعة ، إمّا واجب أو ندب وليس كلّ حسن كذلك . ۴۱
ويمكن أن تكون حسنة صفة لمقدّر وهو الطاعة أو الفعلة أو الخصلة ، أي طاعات حسنة تتقبّلها ، والقبول إنّما هو بعد استجماع العمل شرائط الصحّة ، إذ يمكن أن يكون العمل صحيحا ومسقطا للأمر ، ولكنّه لا يُقبل ؛ لعدم شرط القبول ، أو لوجود المانع ، قال سبحانه وتعالى : «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّه ُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » ، ۴۲ قال الأُستاذ : «وفي الكلام بيان لحقيقة الأمر في تقبّل العبادات والقرابين ، وموعظة وبلاغ في أمر القتل والظلم والحسد ، وثبوت المجازات الإلهّية ، وأنّ ذلك من لوازم ربوبيّة ربّ العالمين ، فإنّ الربوبيّة لا تتمّ إلّا بنظام متقّن بين أجزاء العالم يؤدّي إلى تقدير الأعمال بميزان العدل» . ۴۳
قال السيّد رحمه الله في العروة : «بعد ذكر الأذان والإقامة ينبغي للمصلّي بعد إحراز شرائط صحّة الصلاة ورفع موانعها السعي في تحصيل شرائط قبولها ورفع موانعه ، فإنّ الصحّة والإجزاء غير القبول ، فقد يكون العمل صحيحا ولا يعدّ فاعله تاركا بحيث يستحقّ العقاب على الترك ، لكن لا يكون مقبولاً للمولى .
وعمدة شرائط القبول (ثمّ ذكر شرائط القبول) إقبال القلب وحضوره والخشوع والخضوع ، وأن يصلّي صلاة مودّع ، وأن يجدّد التوبة والاستغفار . وذكر في موانع القبول حبس الزكاة وسائر الحقوق الواجبة والحسد والكبر والغيبة وأكل الحرام وشرب المسكر والنشوز والإباق . ثمّ قال : بل مقتضى قوله تعالى : «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّه ُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »۴۴
عدم قبول الصلاة وغيرها من كلّ عاص وفاسق ، جمعها السيّد رحمه الله من الأحاديث الواردة في المعاصي ، وفي نيّة الصلاة» . ۴۵
أقول : هنا روايات تدلّ على المطلب :
«وكن بالعمل بالتقوى أشدّ اهتماما منك بالعمل بغيره ؛ فإنّه لا يقلّ عمل بالتقوى ، وكيف يقلّ عمل يُتقبل ؛ لقول اللّه عزّ وجلّ : «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللّه ُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » » ، ۴۶ «ليجيئنّ أقوام يوم القيامة لهم من الحسنات كجبال تهامة ، فيؤمر بهم إلى النار ! فقيل : يانبيّ اللّه أمصلّون؟ قال : كانوا يصلّون ويصومون ويأخذون وهنا من اللّيل ، لكنّهم إذا لاح لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه» . ۴۷ «كم من صائم ليس له من صيامه إلّا الظمأ ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلّا السهر والعناء ، حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم» ، ۴۸ «لا يقلّ مع التقوى عمل ، وكيف يقلّ ما يُتقبّل» ، ۴۹ وفي دعاء كميل : «أن تجعل أوقاتي من اللّيل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة ، وأعمالي عندك مقبولة».
«وسيّئات تتجاوز عنها» السوء : كلّ ما يغمّ الإنسان من الأُمور الدنيوية والأُخروية ، ومن الأحوال النفسية والبدنية ، والخارجة من فوات مال أو جاه وفقد حميم... والسيّئة الفعلة القبيحة وهي ضدّ الحسنة... والحسنة والسيّئة ضربان : أحدهما بحسب اعتبار العقل والشرع ، نحو المذكور في قوله : «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِفَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها » ، ۵۰ وحسنة وسيّئة بحسب اعتبار الطبع ، وذلك ما يستخفّه الطبع وما يستثقله قوله : «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَئِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ » . ۵۱ أي أفعال قبيحة عقلاً أو شرعا تتجاوز عنها ، قال تعالى : «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ » ، ۵۲ وقال سبحانه : «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللّه ُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ » ، ۵۳ و «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » ، ۵۴ و «لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّه َ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » ، ۵۵ و «إِنْ تَتَّقُوا اللّه َ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّه ُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ » ، ۵۶ و «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّه ِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » . ۵۷
تكفير السيّئات بالتوبة لاريب فيه ، وقد دلّ عليه الآيات والروايات وضرورة الدين ، ولكن ظاهر بعض الآيات كون الصدقات الخفيّة واجتناب الكبائر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل والقرض الحسن مكفّرا للسيّئات ، كما قال سبحانه : «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ » . ۵۸
ومحصّل الكلام : إنّ التحابط والتباطل باطل سوى الإسلام والارتدادات والتوبة ، وأمّا تأثير الحسنات والسيّئات بعضها في بعض ، فقد دلّت عليه الآيات والروايات ، ويمكن أن يكون المراد من التجاوز عنها هنا عدم أخذهم بها في الدنيا ، أي لا يعاجل بالعقوبة ، قال سبحانه : «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللّه ُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » ، ۵۹ وقال سبحانه : «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللّه ُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » ، ۶۰ وقال تعالى : «لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً » ، ۶۱ فاللّه سبحانه يتجاوز عنها ولا يؤاخذ بها في الدنيا ولا يهلكهم ولا يقطع عنهم رحمته وبركاته.
«وارزقني حجّ بيتك الحرام» تقدّم الكلام في معنى الرزق ، ولعلّ المعنى الجامع لجميع موارد الاستعمال هو النصيب ، يطلب من اللّه سبحانه وتعالى أن يجعل نصيبه حجّ بيته ـ وهو الكعبة ـ والحجّ أصله القصد للزيارة ، وخُصّ في تعارف الشرع بقصد بيت اللّه إقامةً للنسك ، ۶۲ قال تعالى : «وَللّه ِِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ » ، ۶۳ ووصف البيت بالحرام ، كما في قوله تعالى : «جَعَلَ اللّه ُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ » ، ۶۴ وقال سبحانه : «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » ، ۶۵ وقال : «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها » ، ۶۶ جعل اللّه تعالى البيت والبلدة حراما ، أي حرما أمنا ، قال سبحانه : «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ » ، ۶۷ وقال تعالى : «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ » . ۶۸
«في عامي هذا وفي كلّ عام» يسأل اللّه سبحانه الحجّ في كلّ عام ؛ اهتماما به وأنّه من أفضل الأعمال وأجزل العبادات ، كما يظهر من الروايات :
عن الصادق عليه السلام قال : «لو كان لأحدكم مثل أبي قُبيس ذهب ينفق في سبيل اللّه ما عدل الحجّ ، ولدرهم ينفقه الحاجّ يعدل ألفي ألف درهم في سبيل اللّه » . ۶۹
عن حديرة قال : «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : جُعلت فداك ، أيّما أفضل ، الحجّ أو الصدقة؟ قال : هذه مسألة فيها مسألتان ، قال : كم المالُ يكون ما يحملُ صاحِبَهُ إلى الحجّ؟ قال : قلت : لا ، قال : إذا كان مالاً يحمل إلى الحجّ فالصدقة لا تعدل الحجّ ، الحجّ أفضل ، وإن كانت لا تكون إلّا القليل فالصدقة ، قلت : فالجهاد؟ قال : الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض في وقت الجهاد ، ولا جهاد إلّا مع الإمام» . ۷۰
والأخبار في ذلك كثيرة ، منها : «وروى إبراهيم بن ميمون ، قال : كنت جالسا عند أبي حنيفة ، فجاءه رجل فسأله فقال : ما ترى في رجل قد حجّ حجّة الإسلام ، الحجّ أفضل ، أم يعتق رقبة؟ فقال : لا ، بل عتق رقبة . فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : كذب واللّه وأثم ، لحجّة أفضل من عتق رقبة ورقبة ورقبة حتّى عدّ عشرا . ثمّ قال : ويحه ! في أيّ رقبة طواف بالبيت وسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة وحلق الرأس ورمي الجمار ، ولو كان كما قال لعطّل الناس الحجّ ، ولو فعلوا كان ينبغي للإمام أن يجبرهم على الحجّ إن شاؤوا وإن أبوا ، فإنّ هذا البيت إنّما وضع للحجّ» . ۷۱
وعن سعيد السمّان قال : «كنت أحجّ في كلّ سنة ، فلمّا كان في سنة شديدة أصاب الناس فيها جهد ، فقال لي أصحابي : لو نظرت إلى ما تريد أن تحجّ العام به فتصدّقت به كان أفضل ، قال : فقلت لهم : وترون ذلك؟ قالوا : نعم ، فتصدّقت تلك السنة بما أُريد أن أحجّ به وأقمت . قال : فرأيت رؤيا ليلة عرفة وقلت : واللّه لا أعود ولا أدع الحجّ .
قال : فلمّا كان من قابل حججت ، فلمّا أتيت منى رأيت أبا عبد اللّه عليه السلام وعنده الناس مجتمعون ، فأتيته فقلت له : أخبرني عن الرجل ، وقصصت عليه قصّتي وقلت : أيّهما أفضل ، الحجّ أو الصدقة؟ فقال : ما أحسن الصدقة ، ثلاث مرّات ، قال : فقلت : أجل فأيّهما أفضل؟ قال : ما يمنع أحدكم من أن يحجّ ويتصدّق ، قال : قلت : ما يبلغ ماله ذلك ولا يتّسع ، قال : إذا أراد أن ينفق عشرة دراهم في شيء من سبب الحجّ أنفق خمسة وتصدّق بخمسة أو قصّر في شيء من نفقته في الحجّ ، فيجعل ما يحبس في الصدقة ، فإنّ له في ذلك أجرا . قال : قلت : هذا لو فعلناه استقام؟ قال : ثمّ قال : وأنّى له مثل الحجّ ؟ فقالها ثلاث مرّات» ، الحديث . ۷۲
العام : السنة ، أصله عوم ، الجمع أعوام وتصغيره عويم ، والنسبة إليه عاميّ على لفظه والقياس عومي.
«وارزقني رزقا واسعا من فضلك الواسع» يطلب من اللّه سبحانه السعة في الرزق من فضله الواسع.
1.اُنظر : مفردات ألفاظ القرآن : ص ۳۴۸ .
2.الصحيفة السجّادية : الدعاء ۲۱ .
3.المصدر السابق : الدعاء ۴۷ .
4.المصدر السابق : الدعاء ۱۶ .
5.المصدر السابق : الدعاء ۴۷ .
6.النساء : ۵۹ .
7.الحشر : ۷ .
8.النجم : ۳ ـ ۴ .
9.الأحزاب : ۳۶ .
10.النساء : ۹۴ .
11.هود : ۶۱ .
12.في المصادر : «ما» بدل «لا» ، بخلاف مفردات ألفاظ القرآن .
13.نهج البلاغة : الحكمة ۳۸۷ ، كتاب من لا يحضره الفقيه : ج ۴ ص ۳۹۲ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۸ ص ۱۹۹ .
14.اُنظر : مفردات ألفاظ القرآن : ص ۱۶۰ .
15.المصدر السابق : ص ۴۸۸ ـ ۴۸۹ .
16.التوبة : ۳۶ ، اُنظر : مفردات ألفاظ القرآن : ص ۲۶۹ .
17.اُنظر : مفردات ألفاظ القرآن : ص ۲۰۳.
18.اُنظر : السنن الكبرى للبيهقي : ج ۴ ص ۲۰۱ ، تفسير ابن أبي حاتم : ج ۱ ص ۳۱۰ ، تفسير ابن كثير : ج ۱ ص۲۲۲ ، الكامل في الضعفاء الرجال : ج ۷ ص ۵۳ .
19.مجمع البحرين : ج ۲ ص ۲۲۳ ، اُنظر : سفينة البحار : ج ۳ ص ۴۰۷ .
20.الصحيفة السجّادية : الدعاء ۴۴ ـ ۴۵ .
21.سورة القدر.
22.البقرة : ۱۸۵.
23.الدخان : ۳ و ۴.
24.اُنظر : الكافي : ج ۴ ص ۱۵۷ و۱۵۸ ، كتاب من لا يحضره الفقيه : ج ۲ ص ۱۵۹ ، تهذيب الأحكام : ج۴ ص ۱۹۴ ، بحار الأنوار : ج ۱۱ ص ۵۹ .
25.الإقبال : ج ۱ ص ۳۴۱ .
26.المصدر السابق : ج ۱ ص ۳۴۳ .
27.النهاية : ج ۳ ص ۲۶۵ .
28.الصحيفة السجّادية : الدعاء ۴۹ .
29.المصدر السابق : الدعاء ۲۳ .
30.المصدر السابق : الدعاء ۴۷ .
31.المصدر السابق : الدعاء ۲۳ .
32.الأمالي للصدوق : ص ۲۹۹ ، روضة الواعظين : ص ۴۷۲ ، مكارم الأخلاق : ص ۳۲۷ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۷۸ ، ص ۱۷۲.
33.الأمالي للصدوق : ص ۳۰۰ ، بحار الأنوار : ج ۷۸ ص ۱۷۲ .
34.البقرة : ۲۰۱ .
35.بحار الأنوار : ج ۷۸ ص ۱۷۴.
36.الضنائن : جمع ضن ، وهو المخصوص بالمحبّة.
37.قرب الإسناد : ص ۲۵ ح ۸۲ ، الكافي : ج ۲ ص ۴۶۲ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۷۸ ص ۱۸۲ .
38.الصحيفة السجّادية : الدعاء ۲۳ .
39.الأنعام : ۱۶۰.
40.القصص : ۸۴ .
41.اُنظر : مجمع البيان : ج ۴ ص ۲۰۴.
42.المائدة : ۲۷.
43.الميزان في تفسير القرآن : ج ۵ ص ۳۰۱ .
44.المائدة : ۲۷ .
45.العروة الوثقى : ج ۲ ص ۴۲۲ ، كتاب الصلاة بين الأذان والنيّة .
46.المائدة : ۲۷ اُنظر : مكارم الأخلاق : ص ۴۶۸ ، عدّة الداعي : ص ۲۸۴ ، بحار الأنوار : ج ۶۷ ص ۲۸۶.
47.عدّة الداعي : ص ۲۹۵ ، التحصين : ص ۲۹ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۶۷ ص ۲۸۶ .
48.نهج البلاغة : الحكمة ۱۴۵ ، بحار الأنوار : ج ۶۷ ص ۲۸۳ .
49.نهج البلاغة : القصار ۹۵ ، الكافي : ج ۲ ص ۷۵ ، تحف العقول : ۲۷۸ ، الأمالي للمفيد : ص ۲۹ ، الأمالي للطوسي : ۵۶۱ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۶ ص ۳۸ .
50.الأنعام : ۱۶۰.
51.الأعراف : ۱۳۱ ، اُنظر : مفردات ألفاظ القرآن : ص ۲۵۳ .
52.الشورى : ۲۵ .
53.البقرة : ۲۷۱ .
54.النساء : ۳۱ .
55.المائدة : ۱۲ .
56.الأنفال : ۱۲ .
57.التحريم : ۸ .
58.هود : ۱۱۴ ، واُنظر : بحار الأنوار : ج ۵ ص ۳۳۱ ، وج ۷۰ ص ۱۹۷ في تفصيل الإحباط والتكفير : وقد أطال الأُستاذ العلّامة في ذلك في الميزان في تفسير القرآن : ج ۲ ص ۱۷۵ وما بعدها .
59.النحل : ۶۱.
60.فاطر : ۴۵.
61.الكهف : ۵۸ ، اُنظر في معنى الآيات كتب التفسير ولاحظ الأقوال.
62.اُنظر : مفردات ألفاظ القرآن : ص ۱۰۷.
63.آل عمران : ۹۷ .
64.المائدة : ۹۷ .
65.البقرة : ۱۴۴ .
66.النمل : ۹۱ .
67.القصص : ۵۷ .
68.العنكبوت : ۶۷ .
69.المحاسن : ج ۱ ص ۶۴ ، بحار الأنوار : ج ۹۶ ص ۸ .
70.كامل الزيارات : ص ۵۵۲ ، اُنظر : بحار الأنوار : ج ۹۶ ص ۱۰ .
71.الكافي : ج ۴ ص ۲۵۹ ، بحار الأنوار : ج ۴۷ ص ۳۷۱.
72.الكافي : ج ۴ ص ۲۵۷ .