فبقي المصرّ الذي مات بلا توبة وبلا مطهّر من اللوث الذي به ، فهو خبيث ؛ إمّا خباثة تزول بالتعذيب ، فمثله كمثل من عرض له الكظّة ولين البطن ، ويقبل العلاج بشرب الدواء المرّ ، وحال مذنبي أهل الدِّين الذين لم يكفّر ذنوبهم ذلك ؛ فإنّ ذنبهم على وجه الغرّة والزلّة ، لا على وجه التكبّر والمحادّة ؛ وإمّا خباثة لا تزول بالتعذيب ، ولو اُزيل بعض آثارها به جدّدته المادّة الكامنة عقيب الزوال كإبليس وجنوده ، فخلقهم لمصالح لا يحيط بها علما إلّا اللّه تعالى ، وهم بمنزلة الأفاعي والعقارب وسائر الهوامّ والسوامّ التي علمنا على الإجمال أنّها خلقت لمصالح ، وإضرارها لمن أضرّت على علم من اللّه داخل في التدبير الأزلي ، فتعذيب اُولئك الأخبثاء دائمي لا ينقطع ؛ لأنّ الخبث الذاتي وإن لم يقبل الزوال بالتعذيب إلّا أنّه داع إلى أسوء السيّئات ، وهو التكبّر على المصطفين ، وبه يحصل خبث عارضي يزول بالتعذيب ، وكلّما اُزيل تجدّد من مادّة كامنة باقية .
وهاهنا إشكال عويص ، وهو أنّ العقل حاكم حكما قطعيّا أنّ الغنيّ بالذات الحكيم الجواد الرؤوف بالعباد لم يخلق الخلق ليعذّب من يخالف أمره مع علمه الذاتي بوقوع المخالفة بعد إتمام الحجّة ، سيّما التعذيب بنار تذر العظامَ رميما ، وتُسقي أهلها حميما ، نار لا تبقي على من تضرّع إليها ، ولا ترحم من استعطفها ، يأكل بعضها بعضا ، ويصول بعضها على بعض ، وسيّما التعذيب الدائم الذي لا ينقطع أبدا ، فكيف تكون الحال والحال أنّ أنبياءه ورسله الصادقين عليهم السلام أخبروا بأنّ جميع ذلك سيقع في يوم الجزاء ؟
وحلّ هذا الإشكال بعد تمهيد مقدّمة هي أنّ اللّه تعالى علم من العلم بذاته معانيَ لكلّ منها خصوصيّة هو بها هو ، وذلك قبل مرتبة الخلق والتقدير ، فلكلّ باعتبار خصوصيّته شهوة وميل ذاتي إلى الحسنات أو السيّئات ليس من جهة الغير ، ويشهد لذلك قوله تعالى : «مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»۱ ،