جابر بن عبد اللّه بن رئاب بن النعمان الاَنصاري السلمي.

يصفه الذهبي بقوله: الاِمام الكبير، المجتهد الحافظ، صاحب رسول اللّه، الاَنصاري، الخزرجي، السلمي، المدني، الفقيه، من أهل بيعة الرضوان، وكان آخر من شهد ليلة العقبة الثانية موتاً.

روى علماً كثيراً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحدّث عنه: ابن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وسالم بن أبي جعد، والحسن البصري، إلى غير ذلك.

وكان مفتي المدينة في زمانه عاش بعد أن عمّر أعواماً مديدة وتفرد، شهد ليلة العقبة مع والده وكان والده من النقباء البدريين، استشهد يوم أُحد.(۱)

قال ابن سعد في طبقاته: ويجعل جابر في الستة نفر الذين أسلموا من الاَنصار، أوّل من أسلم منهم بمكة وشهد جابر بدراً وأُحداً والخندق والمشاهد كلّها مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد روى عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديثه وتوفي وليس له عقب.(۲)

روى الاِمام أحمد، عن أبي الزبير، عن جابر، انّه قال: غزوت مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) تسع عشرة غزوة، قال جابر: لم أشهد بدراً ولا أُحداً منعني أبي، قال: فلما قتل عبد اللّه يوم أُحد لم أتخلف عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة قط.(۳)

قال الذهبي: مات جابر بن عبد اللّه سنة ۷۸ وهو ابن ۹۴ سنة وكان قد ذهب بصره.

مسنده بلغ ألفاً وخمسمائة وأربعين حديثاً، اتّفق له الشيخان على ۵۸ حديثاً، وانفرد له البخاري بـ ۲۶ حديثاً، ومسلم بـ ۱۲۶ حديثاً.

والعجب انّ ابن سعد وغيره لم يترجموا له ترجمة وافية بحقه، مع أنّهم ربما أطنبوا الكلام فيمن لا يصل إلى منزلة جابر، وأمّا ما هو السبب من وراء ذلك فنحيل دراسته إلى القارىَ الكريم.

فلنذكر شيئاً من روائع رواياته ثمّ نعرج إلى السقيمة منها.

روائع رواياته

۱. أخرج أحمد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال:

سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أفضل الصدقة صدقة عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى.(۴)

۲. أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي نضرة، قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها.

قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد اللّه، فقال: على يديّ دار الحديث، تمتّعنا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما قام عمر، قال: إنّ اللّه يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإنّ القرآن قد نزل منازله، فأتمو الحجّ والعمرة للّه كما أمركم اللّه .

وأبتّوا نكاح هذه النساء فلن أُوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة.(۵)

أقول: الرواية ناظرة إلى متعتين:

الاَُولى: متعة الحجّ، وإليه يشير قول جابر: «تمتعنا مع رسول اللّه».

الثانية: متعة النساء وإليه يشير قول الخليفة «وابتوا نكاح هذه النساء...».

وربما يلتبس على البعض معنى «المتعتين» نقوم بتوضيحها فنقول:

أمّا الاَُولى فهي عبارة عن الاِتيان بالعمرة في أشهر الحجّ ثمّ الحجّ، من عامه بفصل العمرة عن الحج بالتمتع بينهما. وقد كان عمر بن الخطاب يرغب عن التمتع بين العمرة والحج.

فعن أبي موسى الاَشعري انّه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك، فانّك لا تدري ما أحدث أمير الموَمنين في النسك بعدك، حتى لقيه(أبو موسى) بعدُ فسأله عن ذلك.

فقال عمر: قد علمت انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد فعله هو وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلّوا بهنَّ معرِّسين في الاَراك ثمّ يروحون بالحجّ تقطر روَوسهم.(۶)

وعن أبي موسى من طريق آخر، انّ عمر قال: هي سنّة رسول اللّه ـ يعني المتعة ـ و لكنّي أخشى أن يعرسوا بهنّ تحت الاَراك ثمّ يروحوا بهنّحجاجاً.(۷)

وقد جاء في مصادر الشيعة أوضح من ذلك . روى الشيخ المفيد (۳۳۶ـ۴۱۳ هـ ) في إرشاده صورة ما دار ما بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عمر من الحوار.

قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من لم يَسُق منكم هدياً فليحلّ وليجعلها عمرة (أي فليقصر أي يأخذ من شعره وظفره فيحل له ما حرم له بالاِحرام) و من ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه».

فالتفت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عمر، وكان ممن بقي على إحرامه ، وقال: ما لي أراك يا عمر محرماً أسُقْتَ هدياً؟

قال عمر: لم أسُق.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : فلم لا تُحل، وقد أمرتُ من لم يسق الهدي بالاِحلال؟

قال عمر: واللّه يا رسول اللّه لا أحللت وأنت محرم.

وكان عمر يستغرب الاِحلال ويقول: كيف تقطر روَوسنا من الغسل و نحن زوار البيت.(۸)

وأمّا استدلال الخليفة على الوصل بين العمرة والحجّ. بقوله سبحانه: (وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّهِ) (البقرة / ۱۹۶) فغير تامّ و الآية أجنبية عمّا يرومه، وذلك لاَنّها بصدد بيان إكمال كلّ من الفريضتين للّه سبحانه، والاِتيان بهما على وجه قربي، وأين هو من وصل إحداهما بالآخر؟

هذا ما يرجع إلى الاَوّل من الرواية.

وأمّا الثانية وهي قوله: «ابتّوا نكاح هذه النساء فلن أُوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّرجمته بالحجارة» فهو راجع إلى متعة النساء التي ورد فيها قوله سبحانه: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) (النساء/۲۴).

وقد اشتهر من الخليفة قوله: يا أيّها الناس ثلاث كنَّ على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهنَّ وأُحرمهنَّ وأُعاقب عليهنَّ: متعة النساء، ومتعة الحجّ، وحيّ على خير العمل.(۹)

وبما ذكرنا يظهر الخلل فيما جاء به النووي في شرح صحيح مسلم عند تفسير الرواية حيث ذكر في تفسيره وجهين: ۱. فسخ الحج إلى العمرة، ۲. العمرة في أشهر الحجّ ثمّ الحجّ من عامه.(۱۰)

والثاني هو المتعين لكن بإضافة «والتمتع بين العمرة والحجّ بالتحلل من محرماتها».

۳. أخرج ابن خزيمة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ثلاثة لا يقبل اللّه لهم صلاة، ولا يصعد لهم حسنة: العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه فيضع يده في أيديهم، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى، و السكران حتى يصحو.(۱۱)

۴. أخرج مسلم في صحيحه، عن عمرو بن دينار، انّه سمع جابر بن عبد اللّه، يقول: نهى رسول اللّه عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه.(۱۲)

۵. أخرج النسائي في سننه، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالشفعة في كلّ شركة لم تُقْسم رَبْعَة، وحائط لا يحل له أن يبيعه حتى يوَذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك وإن باع ولم يوَذنه فهو أحقّ به.(۱۳)

۶. أخرج أحمد في مسنده، عن أبي الزبير، عن جابر: انّ رسول اللّه «صلى الله عليه وآله وسلم» ، قال: من أحيا أرضاً ميتة فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة.(۱۴)

۷. أخرج ابن ماجة، عن عمر بن دينار، عن جابر بن عبد اللّه، انّ امرأة أتت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: إنّ أُمّي تُوفّيت وعليها نذر صيام، فتوفيت قبل أن تقضيه، فقال لها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ليصم عنها الولي.(۱۵)

۸. أخرج أحمد عن سليمان بن موسى، قال: قال جابر: قال النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» : لا وفاء لنذر في معصية اللّه.(۱۶)

۹. أخرج مسلم عن الاَمير، عن جابر: انّامرأة من بني مخزوم سرقت، فأُتي بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعاذت بأُمّ سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : واللّه لو كانت فاطمة لقطعت يدها، فقطعت.(۱۷)

۱۰. أخرج أحمد في مسنده، عن أبي الزبير، عن جابر عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : انّه قال : لكلّ داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن اللّه عزّ وجلّ.(۱۸)

۱۱. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي الزبير، عن جابر، قال: اقتتل غلامان، غلام من المهاجرين، وغلام من الاَنصار.

فنادى المهاجر أو المهاجرون: يا للمهاجرين، ونادى الاَنصاري: يا للاَنصار.

فخرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال: ما هذا دعوى أهل الجاهلية؟!

قالوا: لا، يا رسول اللّه إلاّ أنّ غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر، قال: فلا بأس ولينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فانّه له نصر، وإن كان مظلوماً فلينصره.(۱۹)

۱۲. أخرج الترمذي عن أبي بكر المنكدر ، عن جابر، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ثلاث من كنّ فيه ستر اللّه عليه كنفه، وأدخله جنته: رفق بالضعيف، وشفقة على الوالدين، وإحسان إلى المملوك.(۲۰)

هذه نخبة من روائع أحاديثه، وما أكثرها، وعزيت إليه روايات لا تصح نسبتها إلى ذلك الصحابي الجليل، وإليك دراستها.

أحاديثه السقيمة

۱. إفتاء النبي بقتل السارق ثمّ العدول عنه إلى القطع

أخرج النسائي في سننه، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللّه الاَنصاري، قال: جيء بسارق إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللّه إنّما سرق، قال: اقطعوه، فقطع.

ثمّ جيء به الثانية، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول اللّه إنّما سرق، قال: اقطعوه، فقطع.

فأتي به الثالثة، فقال: اقتلوه، قالوا: يا رسول اللّه إنّما سرق، فقال: اقطعوه ثمّ أتى به الرابعة، فقال: اقتلوه، قالوا: يا رسول اللّه إنّما سرق، قال: اقطعوه فأتى به الخامسة، قال: اقتلوه.

قال جابر: فانطلقنا به إلى مربد النعم وحملناه فاستلقى على ظهره ثمّ كشر بيديه ورجليه فانصدعت الاِبل، ثمْ حملوا عليه الثانية، ففعل مثل ذلك، ثمّ حملوا عليه الثالثة فرميناه بالحجارة فقتلناه، ثمّ ألقيناه في بئر ثمّ رمينا عليه بالحجارة.(۲۱)

وهناك إشكال واضح يوجب سقوط الحديث عن الحجّية مضافاً إلى ما في كيفية القتل من القساوة التي لا يرضى بها نبيّ الرحمة، وهو انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ حسب الرواية ـ أفتى بقتل السارق أربع مرات وفي الوقت نفسه لما أُخبر بأنّه سرق أفتى بالقطع، وعندئذٍ يُطرح السوَال التالي وهو انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أفتى بالقتل أربع مرّات، فهل ثبت عنده ما يوجب القتل بشهادة الشهود العدول أو لا ؟

فعلى الاَوّل لماذا عدل عن الحكم بالقتل إلى القطع، وعلى الثاني يلزم الاِفتاء بالقتل قبل التثبت وهو أمر لا يليق أن ينسب إلى القاضي العادل فضلاً عن النبي المعصوم.

فإن قيل قد أفتى بالقتل بعد الثبوت ولكن تبين فسق الشهود وزيف شهادتهم، فلذلك عدل بالقتل بعد ثبوت سببه.

يلاحظ عليه: ـ مضافاً إلى بُعد تبين فسق الشهود متتابعاً ـ أنّهلماذا لم يعزّر الشهود أوّلاً ؟ وأخذ بقولهم في المراتب اللاحقة أيضاً كلّ ذلك يوَدي إلى سقوط الرواية عن الحجّية وانّه لا يليق بساحة النبي المعصوم ولا القاضي العادل.

ولحن الحديث أشبه بكلام قاض متساهل لا يقيم لدم الاِنسان قدراً وقيمة، فيحكم بالقتل قبل السوَال والتريث، ولما الفت نظره إلى فقدان سبب القتل ووجود سبب القطع، حكم بالثاني.

هذا هو الاِشكال الواضح في الرواية.

والعجب انّ شرّاح الحديث لم يلتفتوا إلى ذلك وإنّما ركزوا البحث على الخامسة بتصور انّه لا يباح دم السارق وإن تتكررت منه السرقة و ربما يوجه بأنّ الحديث مخرج على مذهب مالك وهو أن يكون السارق الوارد فيها من المفسدين في الاَرض فانّ للاِمام أن يجتهد في عقوبته و إن زاد على مقدار الحد، وإن رأى أن يقتل قتل، وربما يوجه بوجه آخر وهو إن قتله في الرابعة ليس حداً وإنّما هو تعزير بحسب المصلحة وعلى هذا يتخرج حديث الاَمر بقتل السارق.(۲۲)

وهناك وجه آخر وهو انّ السارق في المرتبة الرابعة إذا سرق في السجن يقتل، وهو المروي عن الاِمام الصادق (عليه السلام) ، قال: إذا أخذ السارق قُطعت يده من وسط الكف، فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم فإن عاد استودع السجن، فإن سرق في السجن قتل.(۲۳)

والمهم هو الاِشكال الاَوّل.

۲. سبُّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولعنه وجلده زكاة للمسبوب و...

أخرج مسلم في صحيحه، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبيقال:

اللّهمّ إنّما أنا بشر، فأيّما رجل من المسلمين سببتُه، أو لعنتُه أو جلدُته فاجعلها له زكاة وأجراً.(۲۴)

أقول: كيف تصح نسبة السبّ إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنّه قال: «سباب المسلم فسوق» و هو أرفع من أن يكون سبّاباً، وأدبه يأبى ذلك؟!

و مع غض النظر عن ذلك نقول: إنّ صدور السبّ واللعن والجلد لا يخلو عن حالتين:

الاَُولى : أن يكون المسبوب والمجلود والملعون مستحقاً لذلك الفعل فالقيام بمثل ذلك العمل فريضة إلهية جعلت على عاتق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى القائم مقامه بعده، ومثل هذا ـ لو جاز ـ لا يحتاج إلى الاعتذار كما هو ظاهر الحديث، ولا يحتاج إلى أن يقول إنّما أنا بشر.

مثلها ما إذا لم يكن مستحقاً لذلك عند اللّه وفي واقع الاَمر ولكن قامت الاَمارة الشرعية على الاستحقاق في الظاهر ، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور بالحكم بالظاهر واللّه يتولّى السرائر ، فعندئذٍ الذي يتولّى كبره هو شاهد الزور، لا القاضي فلا وجه للاعتذار.

الثانية: ما إذا لم يكن هناك مسوغ لهذه الاَعمال لا واقعاً ولا ظاهراً، وإنّما قام الفاعل بذلك متأثراً عن قوى حيوانية وهذا هو المتبادر من الرواية بشهادة قوله «إنّما أنا بشر» ولازم ذلك أن يكون النبي فاحشاً ولعّاناً وسبّاباً و ... مع أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) منزَّه عن هذه العيوب.

أخرج البخاري بسنده عن أنس، قال: لم يكن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فاحشاً ولا لعاناً ولا سبّاباً ، إلى غير ذلك من الروايات.(۲۵)

وقد ذُكر احتمال آخر لتصحيح الرواية وهو انّ المراد من سبّه ودعائه ما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نيّة كقوله: «تربت يمينك و عقري حلقي»، وفي هذا الحديث «لا كبرت سنك» وفي حديث معاوية «لا أشبع بطنه» ونحو ذلك لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصادف شيء من ذلك أجابة فسأل ربّه سبحانه وتعالى ورغّب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكفارة وقربة وطهوراً وأجراً.(۲۶)

يلاحظ عليه: أنّه على خلاف الظاهر أوّلاً، والنبيّ المعصوم أجلّ شأناً من أن يحوم حول اللغو العبث ثانياً وعلى فرض كونه المراد فاللّه سبحانه حكيم لا يوَاخذ من دعا عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا جدٍ و نية حتى يسأله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل دعائه عليهم زكاة وأجراً.

ولعلّّ مصدر الرواية هو أبو هريرة ومنه انتشرت الرواية.

روى مسلم عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال، قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) :

إنّما أنا بشر فأيّما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعل له زكاة و رحمة.(۲۷)

وقد تقدم عند دراسة أحاديث أبي هريرة انّ الحديث موضوع لغاية ابراء مروان بن الحكم وأبيه وبنيهما الملعونين على لسان رسول اللّه. فلاحظ.

۳. محمد بن مَسْلَمة قاتل مرحب

أخرج الاِمام أحمد، عن عبد اللّه بن سهل بن عبد الرحمان بن سهل أخي بني حارثة، عن جابر بن عبد اللّه الاَنصاري، قال: خرج مرحب اليهودي من حصنهم، قد جمع سلاحه يرتجز ويقول:

قد علمت خيبر انّي مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب

أطعن أحياناً وحيناً أضرب * إذ الليوث أقبلـت تلهب

كان حماي لحمى لا يقرب

وهو يقول: هل من مبارز؟ فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : من لهذا؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول اللّه، وأنا واللّه المأثور الثائر، قتلوا أخي بالاَمس، قال: فقم إليه، اللّهمّ أعنه عليه، فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر، فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه، كلما لاذ بها منه اقتطع بسيفه ما دونه، حتى برز كلّواحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم، ما فيها فنن، ثمّ حمل مرحب على محمد فضربه، فاتقى بالدَّرقة فوقع سيفه فيها، فعضّت به، فأمسكه وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله.(۲۸)

إنّ الرواية لا تتفق مع التاريخ الصحيح الذي اتّفق عليه علماء كلا الفريقين كابن هشام في سيرته(۲۹)والطبري في تاريخه(۳۰)ابن الاَثير في كامله(۳۱)والواقدي في مغازيه.(۳۲)

أخرج مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما منعك أن تسبَّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً، قالهنَّ له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلن أسبَّه، لئن تكون لي واحدة منهنّأحبّ إليَّ من حمر النِّعم.

ثمّذكر من هذه الثلاثة قوله:

وسمعته يقول يوم خيبر: لاَعطينّ الراية رجلاً يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعو لي علياً فأُوتي به أرمد، فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح اللّه عليه.(۳۳)

إنّ القول بأنّ ابن مَسْلمة هو الذي قتل مرحباً من الوهن بمكان لا يقاوم ما اشتهر في التاريخ الاِسلامي، لاَنّ محمد بن مسلمة لم يكن ذلك الرجل الشجاع، والبطل الصنديد الذي توَهله شجاعته لاَن يكون فاتح خيبر وقاتل بطلها الاَكبر، فانّالتاريخ لا يذكر له موقفاً بارزاً من بطولته وشجاعته.

فقد كُلّف في السنة الثالثة من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يغتال كعب بن الاَشرف الذي حرّك المشركين واليهود ضد الاِسلام عقب معركة بدر الكبرى.

وقد بقي ثلاثة أيام بلياليها لا يطعم شيئاً خوفاً، فأنكر عليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خوفه و سأله عن سبب ذلك، فقال: يا رسول اللّه قلت لك قولاً لا أدري هل أفيـنَّ به أم لا ؟

فلمّا رأى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه ذلك أرسل معه أربعة رجال ليعينوه على هذه المهمة ويتخلّصوا من كعب.

فخرجوا إليه في منتصف الليل وقتلوا عدو اللّه كعباً وفق خطة مدروسة، ولكن محمد بن مسلمة جَرح أحدَ رفاقه من شدة الخوف والوحشة التي أصابته.

نقل ابن هشام في سيرته عن محمد بن مسلمة انّه قال:

وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ، فجرح في رأسه أو في رجله، أصابه بعض أسيافنا.(۳۴)

ولا شكّ انّ مثل هذا الشخص لا يمكنه أن يبارز صناديد «خيبر» المعروفين وينازلهم .

على أنّ فاتح خيبر لم يقاتل مرحباً وحده بل قاتل بعد مصرع مرحب من كانوا معه من شجعان اليهود، وإليك أسماء الذين قاتلهم عليّ (عليه السلام) بعد قتل مرحب:

۱. داود بن قابوس، ۲. ربيع بن أبي الحُقيق، ۳. أبو البائت، ۴. مرّة بن مروان، ۵. ياسر الخيبري، ۶. ضحيج الخيبري.

وكلّ هوَلاء قاتلهم علي خارج حصن خيبر، فكيف يمكن أن ينفرد محمد بن مسلمة بقتل مرحب، ويترك نزال الآخرين لعلي (عليه السلام) ؟ إذ لا يمكن لشجاع أن يرجع إلى معسكره إلاّ بعد أن يخضِّب سيفه بدماء الاَبطال واحداً تلو الآخر.

هذا وانّ أبناء الدنيا حاولوا أن يسلبوا تلك المنقبة الثابتة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ولكنّه سبحانه جرت سنته تعالى على ابطال تلك الخطط الشيطانية، ولذلك ملاَت الخافقين فضائله ومناقبه بعدما منع نقلها ونشرها أحقاب متتالية، و من خططهم الشيطانية ، نقل هذه الرواية على لسان جابر بن عبد اللّه، المعروف بالولاء لعلي وأهل بيته (عليهم السلام) وإلى اللّه المشتكى.

۴. طلحة شهيد يمشي على وجه الاَرض

أخرج الترمذي في سننه، عن أبي نضرة، قال: قال جابر بن عبد اللّه: سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من سرّه أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الاَرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد اللّه.(۳۵)

أقول: ما هو الملاك في تسمية طلحة شهيداً يمشي على وجه الاَرض أكان جهاده في سبيل اللّه؟ فلم يكن هذا سمة خاصة به وقد شاركه فيها علي بن أبي طالب والزبير وسعد بن أبي وقاص وأبو دجانة وغيرهم من الاَنصار.

أو كان الملاك انّه وقى بيده رسول اللّه يوم أُحد فصارت شلاء؟

روى ابن ماجة عن قيس، قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى به رسول اللّه يوم أُحد.(۳۶)

ومعنى ذلك أن يصحّ تسمية كلّمن نقص منه عضو في سبيل حفظ الرسول بالشهيد، وهذا ممّا لا يقبله الذوق السليم.

وعلى كلّتقدير فهذه الرواية لا تضفي على الرجل ثوب العصمة والعدالة ولا تجعله في عداد الشهداء بعدما حارب الاِمام المفترضة طاعته.

والعجب انّ بعض هذه الروايات تنتهي إلى معاوية بن أبي سفيان.

أخرج ابن ماجة عنه، قال: نظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طلحة، فقال: هذا ممّن قضى نحبه.(۳۷)

۵. اللّه ليس بأعور

أخرج أحمد في مسنده، عن زيد بن أسلم، عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما كانت فتنة ولا تكون حتى تقوم الساعة أكبر من فتنة الدجال ولا من نبي إلاّ وقد حذَّر أُمّته، ولاخبرنّكم بشيء ما أخبره نبيّ أُمّته قبلي، ثمّ وضع يده على عينه، ثمّ قال: اشهد انّ اللّه عزّوجلّ ليس بأعور.(۳۸)

وقد تكلمنا حول هذا الموضوع في عدّة مواضع فلاحظ.

۱. سير أعلام النبلاء: ۳/۱۸۹ برقم ۳۸، نقل بتصرف.

۲. طبقات ابن سعد: ۳/۵۷۴.

۳. مسند أحمد: ۳/۳۱۹.

۴. مسند أحمد: ۳/۳۳۰.

۵. صحيح مسلم: ۴/۳۸، باب في المتعة بالحج والعمرة.

۶. مسند أحمد :۱/۵۰.

۷. مسند أحمد : ۱/۴۹.

۸. الارشاد،ص۹۳.

۹. مفاتيح الغيب: ۱۰/۵۲ـ ۵۳؛ القوشجي، شرح التجريد: ۴۸۴ طبع إيران.

۱۰. لاحظ شرح صحيح مسلم للنووي: ۸/۴۱۸، الباب ۱۸ ، باب في المتعة.

۱۱. مسند ابن خزيمة: ۲/۶۹ برقم ۹۴۰.

۱۲. صحيح مسلم: ۵/۱۲، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها من كتاب البيوع.

۱۳. سنن النسائي: ۷/۳۲۰.

۱۴. مسند أحمد: ۳/۳۵۶.

۱۵. سنن ابن ماجة: ۱/۶۸۹ برقم ۲۱۳۳.

۱۶. مسند أحمد: ۳/۲۹۷.

۱۷. صحيح مسلم: ۵/۱۱۵، باب قطع السارق الشريف من كتاب الحدود.

۱۸. مسند أحمد: ۳/۳۳۵.

۱۹. صحيح مسلم: ۸/۱۹، باب نصر الاَخ ظالماً أو مظلوماً من كتاب البر والصلة والآداب.

۲۰. سنن الترمذي: ۴/۶۵۶ برقم ۲۴۹۴.

۲۱. سنن النسائي: ۷/۹۰، باب قطع اليدين والرجلين من السارق؛ وسنن أبي داود: ۴/۱۲۴ برقم ۴۴۱۰.

۲۲. عون المعبود في شرح سنن أبي داود: ۱۲/۹۷ برقم ۴۳۸۷.

۲۳. وسائل الشيعة: ۸/۹۳، الباب الخامس من أبواب حدّ السّرقة، الحديث ۴.

۲۴. صحيح مسلم: ۸/۲۵، باب من لعنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو سبّه أو دعا عليه.

۲۵. البخاري: الاَدب المفرد: ۱۵۴ برقم ۴۳۰.

۲۶. شرح صحيح مسلم: ۱۶/۳۸۹ـ۳۹۰.

۲۷. صحيح مسلم: ۸/۲۵، باب من لعنه النبي أو سبّه أو دعا عليه.

۲۸. مسند أحمد: ۳/۳۸۵.

۲۹. السيرة النبوية لابن هشام: ۳/۳۴۹.

۳۰. تاريخ الطبري: ۲/۲۳۳.

۳۱. ابن الاَثير: الكامل في التاريخ: ۲/۲۲۰ـ۲۲۲.

۳۲. الواقدي، المغازي: ۲/۶۵۳.

۳۳. صحيح مسلم: ۷/۱۲۰، باب مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

۳۴. السيرة النبوية لابن هشام: ۳/۵۶.

۳۵. سنن الترمذي: ۵/۶۴۴ برقم ۳۷۳۹؛ وأخرجه أيضاً ابن ماجة في سننه: ۱/۴۶ برقم ۱۲۵.

۳۶. سنن ابن ماجة: ۱/۴۶ برقم ۱۲۸.

۳۷. سنن ابن ماجة: ۱/۴۶ برقم ۱۲۷.

۳۸. مسند أحمد: ۳/۲۹۲.