617
حكم النّبيّ الأعظم ج6

ملاحظات حول روايات مدح الفقر

ما يبدو للوهلة الاُولى، هو وجود ضرب من التعارض بحسب الظاهر بين روايات المجموعة الاُولى والثانية من هذا الفصل مع نصوص الفصول السابقة. ففي حين تمجّد هذه الروايات الفقر وتمتدح الخمول الاقتصاديوتفضّلهما على الغنى والرفاه المعيشي، ترى الآيات والأحاديث التي طوتها الفصول السابقة تُعلي من شأن التنمية الاقتصادية،وتُبجّل بمعطيات الازدهار المعيشي، وتنوّه ببركاته وآثاره، وتعدّ ذلك من معالم مشروع التنمية الاقتصادية الإسلامية الموعود، كماتحذّر في الوقت ذاته من خطر الفقر وفواجع التخلّف الاقتصادي. والآن، ما الذي تقصده الروايات التي تمتدح الفقر؟ ثمّ هل يمكن الالتزام بمفاد هذه الروايات والإذعان إلى مدلولها؟
سلك علماء المسلمين والمختصّون بالحديث مناهج مختلفة للجمع بين هذه النصوص؛ فبعضهم جمع بين الاثنين من خلال تمييز مفهوم الفقرالوارد في روايات المدح عنه في روايات الذمّ، على حين اختار بعض آخر التفاوت بين خصائص الفقر الممدوح والفقر المذموم طريقاللجمع، وفريق ثالث أهمل روايات مدح الفقر لضعف سندها ، واستند من ثمّ إلى تصحيح النصوص السابقة. ۱
لكن يبدو أنّ توزيع النصوص الإسلامية في هذا القسم قد استقرّ في صيغة بحيث يمكن للباحث أن يدرك بسهولة رؤية الإسلام تجاه التنميه الاقتصادية من خلال تأمّل تلك الصيغة، ومن ثمّ يكون بمقدوره أن يستوعب مدلول روايات مدح الفقر، ويعرف المراد منها على فرض صحّة السند.
من أجل أن تكتسب الصورة وضوحا أكبر سيكون مفيدا تأمُّل النقاط التالية:
1 . ملاحظة الآيات والأحاديث التي ضمّتها الفصول الخمسة الاُولى حول أهمّية التنمية الاقتصادية والأضرار الناشئة عن الفقر، وماستحويه أجزاء الكتاب الاُخرى من حديث عن اُصول التنمية ومبادئها وعن عقباتها وآفاتها؛ ملاحظة ذلك كلّه لا يدع مجالاً للريبة بأنّ الإسلام دين لا يميل إلى الفقر ولا ينحاز إليه، بل تبرز التنمية الاقتصادية في هذا الدين ويُحتفى بها بصفتها هدفا مهمّا.
بتعبير آخر: إنّ انحياز الإسلام ضدّ الفقر ومكافحته له، وما يحفل به هذا الدين من تخطيط للتنمية الاقتصادية، هما من محكمات الإسلام.على ضوء ذلك، إذا ما لاحت روايات تدعو الناس إلى الفقر بحسب الظاهر، ثمّ ثبتت نسبتها إلى أئمّة الدين على نحوٍ قطعي، فلابدّ أن يكون المقصود منها غير ظاهرها.
2 . الغنى والفقر هما كالعلم والجهل تماما؛ يمكن تقويمهما انطلاقا من رؤيتين: ففي إطار الرؤية الاُولى تقوّم الثروة على نحوٍ مطلق ؛ كالعلم بوصفه ظاهرة في نظام الخلقة والتكوين ويكون في خدمة الإنسان ومع حوائجه ، في مقابل الفقر الذي يُقوّم كالجهل بإزاء متطلّبات الإنسان. أمّا في الرؤية الثانية فينظر إلى الثروة في نطاق الدور الذي تنهض به على صعيد الحياة.
يمكن التعبير عن هذه الملاحظة بالصيغة التالية: إنّ ما يكون موضوعا للتقويم في اللّحاظ الأوّل هما الثروة والعلم، وما يكون موضوعا له فياللحاظ الثاني هما الثريّ والعالِم.
عندما يُطَلّ على الثروة من زاوية وجودية ويتمّ تقويمها من هذا المنطلق، فهي بلا ريب تعدّ قيمة في مقابل الفقر ونعمة، تماما كالعلم في مقابل الجهل. أمّا عندما يتمّ تقويم الثروة انطلاقا من طبيعة علاقتها بالإنسان الثريّ فستكتسب المعادلة صيغا اُخرى؛ فكما لا يعدّ العلم نافعا لكلّ عالم ولا الجهل ضارّا بكلّ جاهل ۲ ، فكذلك تكون الثروة؛ فليس كلّ فقير منتفعاً بالثروة كما ليس كلّ فقير متضرّرا من الفقر، بل الأمر هو ماعبّر عنه الإمام أمير المؤمنين في قوله عليه السلام : «رُبّ غِنَىً أورَثَ الفَقرَ الباقِي»، ۳ و «رُبَّ فَقرٍ عادَ بِالغِنَى الباقِي»، ۴ و«كَم مِن مَنقوصٍ رابِحٍ ومَزيدٍخاسِرٍ!». ۵
تأسيسا على هذه الحالة، عندما تقوّم الثروة انطلاقا من طبيعة صلتها بالثريّ وينظر إلى الفقر من خلال طبيعة صلته بالفقير، لا نستطيع أن نجزم بأنّ الثروة تعدّ قيمةً بالمطلق، تماما كما لا نستطيع أن نجزم بأنّ الفقر يعدّ حالة منافية للقيمة بالمطلق. بل يكون الأجدى ممارسة التقويم من خلال النتائج، فإذا ما استفاد الثريّ من الثروة على ما يرام فستمثّل الثروة قيمة، وإذا ما أساء فستتحوّل إلى الضدّ تماما. وهكذا بالنسبه إلى الفقر، فإذا ما جرّ الفقير إلى الذلّ والدمار فهو عنصر سلبي، وإذا ما قادت الفقير مواقفُه الصحيحة من الفقر إلى الغنى وصارت باعثا لكماله، فالفقر قيمة عندئذٍ.
بشكل عامّ توفّرت الفصول الخمسة الاُولى من الكتاب على تناول موضوع التنمية الاقتصادية من خلال الرؤية الاُولى. أمّا نصوص الفصل السادس فقد أطلّت عليه من خلال الرؤية الثانية، وبالنتيجة ما ثمّة تعارض بين الاثنين.
3 . عرضت الفئة الثالثة من روايات الفصل السادس إلى معايير متعدّدة لتقويم الفقر والغنى، يمكن تصنيفها كما يلي:
أ ـ معيار كون الثروة خيرا للإنسان الثريّ والفقر شرّا للإنسان الفقير انطلاقا من دورهما في حياة الإنسان الدائمة وأثرهما في ذلك. في منظورهذا المعيار ليست الثروة خيرا للجميع، كما ليس الفقر شرّا للجميع.
ب ـ معيار كون الثروة قيمة وخصلة إيجابية بلحاظ استفادة معوزي المجتمع منها.
ج ـ في المجتمع الذي يتفشّى فيه الفقر، يعدّ انتخاب الفقر لخدمة المحتاجين خصلة إيجابية ممدوحة.
د ـ إذا ما اقترن الفقر بحفظ القيم والتزام المواقف الصحيحة فهو أفضل من ثروة تصاحبها ممارسات سلبية منافية للقيم.
ه ـ بالنسبة إلى تلك الفئة من الناس التي اختطّت الطريق إلى العُلا وبلغت التكامل المعنوي سيّان لها الفقر والغنى. مردّ ذلك أنّ هذه الفئه تستطيع أن تستفيد من أجواء الحياة ـ مهما كانت ـ باتّجاه تحقيق المزيد من الرقيّ والكمال.
4 . للفقر في الاصطلاح القرآني والحديثي معانٍ متعدّدة؛ فتارة يأتي بمعنى الفاقة والاحتياج في أصل الوجود، كما في قوله سبحانه: «يَـأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ» ، ۶ ويكون تارة بمعنى العوز المادّي، كما في قوله سبحانه: «إِنَّمَا الصَّدَقَـتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَـكِينِ» ، ۷ ويكون ثالثة بمعنى الفقر المعنوي، كما في الرواية المأثورة عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام : «فَقرُ النَّفسِ شَرُّ الفَقرِ»، ۸ في ما يأتي تارة رابعة بمعنى الإحساس بالحاجة إلى اللّه والافتقار إليه سبحانه، كما في الحديث النبوي الشريف: «اللّهمّ أغنني بالافتقار إليك». ۹
ما يبدو للعيان أنّ بضعة من أحاديث المجموعة الاُولى من الفصل السادس جاءت بالمعنى الأخير، وذلك على فرض تمامية السند، كما هوالحال في: «الفقر فخري، وبه أفتخر».
على ضوء ذلك، لاصلة لهذا الضرب من الأحاديث بالتنمية الاقتصادية لانفيا ولا إيجابا .

1.راجع: المحجّة البيضاء : ج ۷ ص ۳۱۹ ـ ۳۳۰ وبحار الأنوار : ج ۷۲ ص ۶ ـ ۷ وتفسير نمونة : ج ۱۶ ص ۱۷۴ .

2.كما روي عن الإمام أمير المؤمنين قوله عليه السلام : «رُبّ جاهل نجاته جهله». (راجع: كتاب العقل والجهل: ص ۲۲۱ (ما مدح من الجهل) وكتاب العلم والحكمة: ص ۲۷۰ (السؤال عمّا قد يضرّ جوابه)) .

3.غرر الحكم: ح ۵۳۲۸ .

4.غرر الحكم: ح۵۳۲۷ .

5.غرر الحكم: ح ۶۹۶۰ .

6.فاطر: ۱۵ .

7.التوبة: ۶۰ .

8.غرر الحكم: ح ۶۵۴۷ .

9.مفردات ألفاظ القرآن: ص ۶۴۲.


حكم النّبيّ الأعظم ج6
616

۱۰۰۲۶.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :أوحَى اللّه ُ إلى موسَى بنِ عِمرانَ : يا موسى ، اِرضَ بِكِسرَةِ خُبزٍ مِن شَعيرٍ تَسُدُّ بِها جَوعَتَكَ ، وخِرقَةٍ تُواري بِها عَورَتَكَ ، وَاصبِر عَلَى المُصيباتِ ؛ فَإِذا رَأَيتَ الدُّنيا مُقبِلَةً فَقُل : إنّا للّه ِِ وإنّا إلَيهِ راجِعونَ عُقوبَةٌ عُجِّلَت فِي الدُّنيا ، وإذا رَأَيتَ الدُّنيا مُدبِرَةً وَالفَقرُ مُقبِلاً فَقُل : مَرحَبا بِشِعارِ الصّالِحينَ . ۱

6 / 3

ما يُبَيِّنُ الفَقرَ المَمدوحَ

۱۰۰۲۷.رسول اللّه صلى الله عليه و آله :الفَقرُ خَيرٌ لِلمُؤمِنِ مِنَ الغِنى ، إلّا مَن حَمَلَ كَلّاً ، وأعطى في نائِبَةٍ . ۲

۱۰۰۲۸.عنه صلى الله عليه و آله :ألا يا رُبَّ نَفسٍ طاعِمَةٍ ناعِمَةٍ فِي الدُّنيا ؛ جائِعَةٍ عارِيَةٍ يَومَ القِيامَةِ! ألا يا رُبَّ نَفسٍ جائِعَةٍ عارِيَةٍ فِي الدُّنيا ؛ طاعِمَةٍ ناعِمَةٍ يَومَ القِيامَةِ! ۳

۱۰۰۲۹.عنه صلى الله عليه و آله :يا مَعشَرَ المَساكينِ ، طيبوا نَفسا ، وأعطُوا اللّه َ الرِّضا مِن قُلوبِكُم ؛ يُثِبكُمُ اللّه ُ عز و جلعَلى فَقرِكُم ، فَإِن لَم تَفعَلوا فَلا ثَوابَ لَكُم . ۴

1.كنز العمّال : ج ۶ ص ۴۸۴ ح ۱۶۶۵۱ نقلاً عن الديلمي عن أبي الدرداء ؛ عدّة الداعي : ص ۱۰۷ .

2.التمحيص : ص ۴۹ ح ۸۵ عن الإمام الصادق عليه السلام ، بحار الأنوار : ج ۷۲ ص ۵۶ ح ۸۶ .

3.شُعب الإيمان : ج ۲ ص ۱۷۰ ح ۱۴۶۱ عن أبي البجير ؛ عدّة الداعي : ص ۱۰۹ نحوه .

4.الكافي : ج ۲ ص ۲۶۳ ح ۱۴ عن السكوني عن الإمام الصادق عليه السلام ، بحار الأنوار : ج ۷۲ ص ۱۷ ح ۱۶ وص ۴۳ ح ۴۸ وراجع: الفردوس : ج ۵ ص ۲۹۱ ح ۸۲۱۶ .

  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج6
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق / 1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 164027
الصفحه من 649
طباعه  ارسل الي