105
حكم النّبيّ الأعظم ج2

حكم النّبيّ الأعظم ج2
104

أولاً : نظريّة الجبر

إنّ الجبر يقف في مقابل الاختيار والحرّية ، فالإنسان المجبور هو الّذي لا يمتلك القدرة والاختيار والحريّة ؛ فالإنسان القادر المختار هو الّذي يتمتّع بقوّة إرادة واختيار في أداء عملٍ معيّنٍ وإنجازه ، كذلك القدرة على تركه . يذكر العلّامة الحلّي في تعريف القدرة :
القدرة صفة تقتضي صحّة الفعل من الفاعل لا إيجابه ؛ فإنّ القادر هو الّذي يصحّ منه الفعل والترك معا . ۱
على هذا فإنّ الإنسان المجبور هو الّذي لا يمتلك مثل هذه القدرة والاختيار . على سبيل المثال : فإذا ما اُوثق إنسان وصُبَّ الخَمرُ في فمه قسراً فإنّ هذا الشخص قد شرب الخمر ، ولكنّه ليس مختارا من الناحية العمليّة في القيام بهذا العمل ؛ ذلك لأنّه لم يكن قادراً على ترك هذا الفعل .
إنّ أنصار نظريّة الجبر يرونَ أنّ الإنسان لا يمتلك الاختيار في أيّ عَملٍ ، وليس حرّا في ذلك ، بمعنى أنّه لا يمكننا أن نجد عملاً يكون فعله وتركه ممكنين للإنسان .

أنصار «الجبر» في العلوم المختلفة

لنظريّة الجبر أنصار في العلوم المختلفة ، ففي كلّ علم يلاحظ فيها منشأ خاصّ . ففي علم الاجتماع يُطرح الجبر الاجتماعي الناجم عن العلاقات الاجتماعيّة المتحكّمة بالإنسان . ويُطرح في علم النفس الجبر النفسيّ الناجم عن الوضع الجسميّ والروحيّ للفرد . وفي الفلسفة ترى طائفة أنّ الجبر العلّي المعلولي (السببي المسبّبي) هو مصدر الجبر. ويطرح علماء الكلام الجبر باعتباره صادرا من اللّه وإرادته وبسبب قضائه وقدره .
والّذي يهمّنا في هذا البحث هو الجبر المطروح في علم الكلام ، رغم أنّنا سنشير إلى ردّ أنواع الجبر الاُخرى بعد إثبات بطلان هذا النوع من الجبر .
يصرّح الشهرستاني حول الجبر المطروح في علم الكلام وأقسامه قائلاً :
الجبر هو نفي الفعل حقيقةً عن العبد وإضافته إلى الربّ تعالى . والجبرية أصناف : فالجبريّة الخالصة هي الّتي لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلاً ، والجبريّة المتوسّطة هي الّتي تثبت للعبد قدرة غير مؤثّرة أصلاً . ۲
ويعدّ المرجئة الجبريّة بزعامة جهم بن صفوان ۳ ، أوّل فرقة ذكرت في كتب المذاهب والفرق الإسلاميّة باسم الجبريّة ، وتُسمّى بالجهميّة أيضا ، وهم الجبريّة الخالصة . ۴
ويصف الشهرستاني عقيدة جهم قائلاً :
إنّ الإنسان لا يقدر على شيء ولا يُوصف بالاستطاعة ، وإنّما هو مجبور في أفعاله ، لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار . وإنّما يخلق اللّه تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات ، وتُنسب إليه الأفعال مجازا كما تُنسب إلى الجمادات ، كما يُقال : أثمرت الشجرة ، وجرى الماء ، وتحرّك الحجر ، وطلعت الشمس وغربت ، وتغيّمت السماء وأمطرت ، واهتزّت الأرض وأنبتت ، إلى غير ذلك ، والثواب والعقاب جبر كما أنّ الأفعال كلّها جبر . قال : وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا . ۵
يمثّل أهل الحديث أحد التيّارات العقيديّة المهمّة في الإسلام ، وهم لا يعتبرون أنفسهم من أهل الجبر ، ولكنّ كلامهم يستلزم الجبر . يذكر أحمد بن حنبل في رسالته الاعتقادية :
واللّه عز و جل قضى قضاءه على عباده ، لا يجاوزون قضاءه بل كلّهم صائرون إلى ما خلقهم له ، واقعون فيما قدّر عليهم لا محالة ، وهو عدل منه عز و جل . والزنى ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وقتل النفس ، وأكل المال الحرام ، والشرك باللّه عز و جل ، والذنوب والمعاصي كلّها بقضاءٍ وقدرٍ من اللّه عز و جل ، من غير أن يكون لأحدٍ من الخلق على اللّه حجّة ، بل للّه عز و جل الحجّة البالغة على خلقه «لَا يُسْـأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسئَلوُنَ»۶ ... ومن زعم أنّ اللّه عز و جل شاء لعباده الّذين عصوا الخير والطاعة ، وأنّ العباد شاؤوا لأنفسهم الشرّ والمعصية يعملون على مشيئتهم ، فقد زعم أنّ مشيئة العباد أغلب من مشيئة اللّه عز و جل . فأيّ افتراء على اللّه أكبر من هذا؟ . ۷
إنّ الأشاعرة يُعدّون المصداق البارز للجبريّة المتوسّطة ، رغم أنّهم لا يعتبرون أنفسهم جبريّين . ويؤمن الأشعري بعموميّة القضاء والقدر الجبريّين في الأفعال ، ويرى أنّ كلّ الأشياء ـ ومنها أفعال الإنسان الاختياريّة ـ مخلوقة من قبل اللّه سبحانه . يقول أبو الحسن الأشعري (المؤسس لنظرية الأشاعرة) :
لافاعل له على حقيقته إلّا اللّه تعالى . ۸
وقد طرح نظريّة «الكسب» من أجل أن يتفادى الجبر وينسب دورا ما للإنسان ، فهو يرى أنّ القدرة القديمة هي وحدها المؤثّرة في الخلق وإيجاد الفعل ، وهذه القدرة للّه . وأمّا الإنسان فهو يتمتّع بالقدرة الحادثة ، وأثر هذه القدرة هو الإحساس بالحريّة والاختيار ، لا القيام بالفعل .
والمراد من «الكسب» هو اقتران إيجاد الفعل في الإنسان مع إيجاد القدرة الحادثة فيه ، ولكن بما أنّ كلّاً من الفعل والقدرة الحادثتين يصدران من قِبل اللّه ، فإنّ «الكسب» أيضا سيكون مخلوقا من قبل اللّه عز و جل ، كما يقول الأشعريّ :
إن قال قائل لِمَ زعمتم أنّ أكساب العباد مخلوقة للّه تعالى ؟ قيل له : قلنا ذلك لأنّ اللّه تعالى قال : «وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ»۹ . ۱۰
بناءً على ذلك، فإنّ الأشعريّ يعتبر الإنسان ممتلكا للقدرة الحادثة ، ولكنّ هذه القدرة ليس لها أثر في إيجاد الفعل ، وهو نفس نظريّة الجبريّة المتوسّطة .
والسبب في أنّ الأشعريّ ينسب الكسب إلى الإنسان ، هو أنّ الفعل والقدرة الحادثة يحدثان في الإنسان ، كما يقال للشيء الّذي حلّت فيه الحركة : متحرّك . ۱۱

1.كشف المراد : ص ۲۴۸ .

2.الملل والنحل : ج ۱ ص ۸۵ .

3.الجهمية : أصحاب جهم بن صفوان ، وهو من الجبرية الخالصة ، ظهرت بدعته بترمذ ، وقتله مسلم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني اُميّة (الملل والنحل : ج ۱ ص ۸۶) .

4.الفرق بين الفرق : ص ۲۱۱ .

5.الملل والنحل : ج ۱ ص ۸۶ .

6.الأنبياء : ۲۳ .

7.راجع : بحوث في الملل والنحل : ج ۱ ص ۱۶۱ .

8.اللمع : ص ۳۹ .

9.الصافات: ۹۶ .

10.اللمع : ص ۴۰ .

11.راجع : اللمع : ص ۳۷ .

  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج2
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق/1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 164247
الصفحه من 686
طباعه  ارسل الي