235
موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج2

موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج2
234

صورة اُخرى من محاورة الرحلة الاُولى

قدم معاوية المدينة حاجّا ، فلمّا أن دنا من المدينة خرج إليه الناس يتلقّونه ما بين راكبٍ وماش ، وخرج النساء والصبيان ، فلقيه الناس على حال طاقتهم وما تسارعوا به في الفوت والقرب ، فلانَ لمن كافَحَه ، وفاوض العامّة بمحادثته ، وتألّفهم جهده مقاربةً ومصانعةً ؛ ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس ، حتّى قال في بعض ما يجتلبهم به :
[يا] ۱ أهل المدينة ، مازلت أطوي الحزن من وعثاء السفر ۲ بالحبّ لمطالعتكم ، حتّى انطوى البعيد ولان الخشن ، وحقّ لجار رسول اللّه أن يُتاق إليه .
فردّ عليه القوم :
بنفسك ودارك ومهاجرك ، أما إنّ لك منهم كإشفاق الحميم ۳ البرّ والحفيّ . ۴
حتّى إذا كان بِالجُرفِ ۵ لقيه الحسين بن عليّ عليه السلام وعبداللّه بن عبّاس ، فقال معاوية : مرحبا بابن بنت رسول اللّه وابن صنو أبيه ، ثمّ انحرف إلى الناس فقال : هذان شيخا بني عبد مناف . وأقبل عليهما بوجهه وحديثه ، فرحّب وقرّب ، وجعل يواجه هذا مرّة ، ويضاحك هذا اُخرى ، حتّى ورد المدينة ، فلمّا خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل ، فانصرفا عنه ، فمال الحسين عليه السلام إلى منزله ، ومضى عبداللّه بن عبّاس إلى المسجد فدخله ، وأقبل معاوية ومعه خلقٌ كثيرٌ من أهل الشام ، حتّى أتى عائشة اُمّ المؤمنين ، فاستأذن عليها فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحد ، وعندها مولاها ذكوان .
فقالت عائشة :
يا معاوية ! أكنت تأمن أن اُقعد لك رجلاً فأقتلك كما قتلتَ أخي محمّدبن أبي بكر ؟
فقال معاوية : ما كنت لتفعلين ذلك . قالت : لِمَ ؟ قال : لأنّي في بيت أمن ؛ بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله .
ثمّ إنّ عائشة حمدت اللّه وأثنت عليه ، وذكرت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وذكرت أبا بكر وعمر ، وحضّته على الاقتداء بهما والاتّباع لأثرهما ، ثمّ صمتت . قال : فلم يخطب معاوية وخاف أن يبلغ ما بلغت ، فارتجل الحديث ارتجالاً . ثمّ قال :
أنتِ ـ واللّه يا اُمّ المؤمنين ـ العالمة باللّه وبرسوله ، دللتنا على الحقّ ، وحضضتنا على حظّ أنفسنا ، وأنت أهلٌ لأن يُطاع أمرك ويُسمع قولك ، وإنّ أمر يزيد قضاء من القضاء ، وليس للعباد الخيرة من أمرهم ، وقد أكّد النّاس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم ، أفتَرَين ۶ أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم ؟
فلمّا سمعت ذلك عائشة علمت أنّه سيمضي على أمره ، فقالت :
أمّا ما ذكرت من عهودٍ ومواثيق فاتّق اللّه في هؤلاء الرهط ولا تعجل فيهم ، فلعَلّهم لا يصنعون إلّا ما أحببت .
ثمّ قام معاوية ، فلمّا قام قالت عائشة : يا معاوية ! قتلت حُجرا وأصحابه العابدين المجتهدين ! فقال معاوية : دعي هذا ، كيف أنا في الّذي بيني وفي حوائجك ؟ قالت : صالح ، قال : فدعينا وإيّاهم حتّى نلقى ربّنا .
ثمّ خرج ومعه ذكوان ، فاتّكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول : تاللّه ، إن رأيت كاليوم قطّ خطيبا أبلغ من عائشة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله . ثمّ مضى حتّى أتى منزله ، فأرسل إلى الحسين بن عليّ عليه السلام فخلا به ، فقال له :
يابن أخي ، قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم . يابن أخي ، فما إربك ۷
إلى الخلاف ؟
قال الحسين عليه السلام :
أرسِل إلَيهِم ، فَإن بايَعوكَ كُنتُ رَجُلاً مِنهُم ، وإلّا [لَم] ۸ تَكُن عَجَّلتَ عَليَّ بِأمرٍ .
قال : [وتفعل ؟ قال :] ۹ نَعَم . فأخذ عليه ألّا يخبر بحديثهما أحدا ، فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلاً بالطريق ، فقال : يقول لك أخوك ابن الزبير : ما كان ؟ فلم يزل به حتّى استخرج منه شيئا .
ثمّ أرسل معاوية إلى ابن الزبير فخلا به ، فقال له :
قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يابن أخي ، فما إربك إلى الخلاف ؟
قال :
فأرسل إليهم ، فإن بايعوك كنت رجلاً منهم ، وإلّا [لم] ۱۰ تكن عجّلت عليَّ بأمرٍ .
قال : وتفعل ؟ قال : نعم . فأخذ عليه ألّا يخبر بحديثهما أحدا .
فأرسل بعده إلى ابن عمر ، فأتاه وخلا به فكلّمه بكلام هو ألين من صاحبيه ، وقال :
إنّي كرهت أن أدع اُمّة محمّد بعدي كالضأن لا راعي لها ، ۱۱ وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم ، فما إربك إلى الخلاف ؟
قال ابن عمر : هل لك في أمر تحقن به الدماء وتدرك به حاجتك ؟
فقال معاوية : وددت ذلك ، فقال ابن عمر :
تبرز سريرك ثمّ أجيء فاُبايعك على أنّي ۱۲ أدخل فيما اجتمعت عليه الاُمّة ، فواللّه لو أنّ الاُمّة اجتمعت ۱۳
على عبد حبشيّ لدخلت فيما تدخل فيه الاُمّة . قال : وتفعل ؟ قال : نعم . ثمّ خرج .
وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فخلا به ، قال : بأيّ يدٍ أو رجل تقدم على معصيتي ؟ فقال عبد الرحمن : أرجو أن يكون ذلك خيرا لي . فقال معاوية : واللّه ، لقد هممت أن أقتلك ! فقال : لو فعلت لأتبعك اللّه في الدنيا ولأدخلك في الآخرة النار . ثمّ خرج .
بقي معاوية يومه ذلك يُعطي الخواصّ . ويُدني بذمّة الناس ۱۴ . فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني ، أمر بفراشٍ فوضع له ، وسوّيت مقاعد الخاصّة حوله وتلقاءه من أهله ، ثمّ خرج وعليه حلّةٌ يمانيّةٌ وعمامةٌ دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه ، وقد تغلّف ۱۵ وتعطّر ، فقعد على سريره وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من النّاس وإن قرب .
ثمّ أرسل إلى الحسين بن عليّ عليه السلام وعبداللّه بن عبّاس ، فسبق ابن عبّاس ، فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش على يساره ، فحادثه مليّا ، ثمّ قال :
يابن عبّاس ، لقد وفّر اللّه حظّكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرّسول صلى الله عليه و آله ، فقال ابن عبّاس : نعم أصلح اللّه أمير المؤمنين ! وحظّنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلّ أوفر .
فجعل معاوية يحدّثه ويحيد به عن طريق المجاوبة ، ويعدل إلى ذكر الأعمار ۱۶ على اختلاف الغرائز والطبائع ، حتّى أقبل الحسين بن عليّ عليه السلام ، فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت عن يمينه ، فدخل الحسين عليه السلام وسلّم ، فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة ، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن عليه السلام وأسنانهم ، فأخبره ثمّ سكت ، ثمّ ابتدأ معاوية فقال :
أمّا بعد ، فالحمد للّه وليّ النعم ، ومنزل النقم ، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه المتعالي عمّا يقول الملحدون علوّا كبيرا ، وأنّ محمّدا عبده المختصّ المبعوث إلى الجنّ والإنس كافّة ، لينذرهم بقرآنٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيمٍ حميد ، فأدّى عن اللّه وصدع بأمره ، وصبر عن الأذى في جنبه ، حتّى أوضح دين اللّه ، وأعزّ أولياءه ، وقمع المشركين ، وظهر أمر اللّه وهم كارهون .
فمضى صلوات اللّه عليه وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما سخّر له زهادةً واختيارا للّه ، وأنفة واقتدارا على الصبر ، بُغيا لما يدوم ويبقى ، فهذه صفة الرّسول صلى الله عليه و آله ، ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك ، ۱۷ وبين ذلك خوض طولٍ ما عالجناه مشاهدةً ومكافحةً ومعاينةً وسماعا، وما أعلم منه فوق ما تعلمان.
وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم اللّه ما اُحاول به من أمر الرعيّة ، من سدّ الخلل ولمّ الصّدع بولاية يزيد ، بما أيقظ العين وأحمد الفعل ، هذا معناي في يزيد ، وفيكما فضل القرابة وحظوة العلم وكمال المروءة ، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ، ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، مع علمه بالسنّة وقراءة القرآن ، والحلم الّذي يرجح بالصمّ ۱۸ الصلاب .
وقد علمتما أنّ الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة ، قدّم على الصدّيق والفاروق ودونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل ۱۹ ، مَن لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنّة مذكورة ، فقادهم الرجل بإمرة ، وجمع بهم صلاتهم ، وحفظ عليهم فيئهم ، وقال ولم يقل معه ، وفي رسول اللّه صلى الله عليه و آله اُسوة حسنة ، فمهلاً بني عبد المطّلب ! فأنا وأنتم شعبا نفع وجد ، ومازلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما ، فما يقول القائل إلّا بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما ، وأستغفر اللّه لي ولكما .

1.ما بين المعقوفين أثبتناه من الإمامة والسياسة .

2.وعثاء السفر : مشقّته (الصحاح : ج ۱ ص ۲۹۶ «وعث») .

3.الحميم : القريب الّذي يودّك وتودّه (لسان العرب : ج ۱۲ ص ۱۵۳ «حمم») .

4.الحَفيّ : البار (مجمع البحرين : ج ۱ ص ۴۳۰ «حفي») .

5.الجُرْفُ : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام (معجم البلدان : ج ۲ ص ۱۲۸) وراجع : الخريطة رقم ۳ في آخر المجلّد ۳ .

6.في الغدير : «أفترى» ، والتصويب من الإمامة والسياسة .

7.الإربُ : الحاجة (القاموس المحيط : ج ۱ ص ۳۶ «الإرب») .

8.ما بين المعقوفين أثبتناه من الإمامة والسياسة .

9.ما بين المعقوفين أثبتناه من الإمامة والسياسة .

10.ما بين المعقوفين أثبتناه من الإمامة والسياسة .

11.قال العلّامة الأميني قدس سره معلّقا : أتصدّق أنّ محمّدا صلى الله عليه و آله ترك اُمّته كالضأن لا راعي لها ولم يرضَ بذلك معاوية ؟ ! حاشا نبيّ الرحمة عن أن يدع الاُمّة كما يحسبون ، غير أنّهم نبذوا وصيّته وراء ظهورهم ، وجرّوا الويلات على الاُمّة حتّى اليوم .

12.في الإمامة والسياسة : «على أنّي بعدك» .

13.في الإمامة والسياسة : «اجتمعت بعدك» .

14.كذا ، وفي الإمامة والسياسة : «ويعصي مذمّة الناس» .

15.يقال : تَغَلَّلتُ وتَغَلَّفتُ وتَغَلَّيتُ ؛ كلّه مِن الغالية ، وهو نوع من الطيب مركّب من مِسكٍ وعنبرٍ وعودٍ ودُهن . والتغلّف بها : التلطّخ (لسان العرب : ج ۱۵ ص ۱۳۴ «غلا») .

16.في الإمامة والسياسة : «ذكر الأعمال» .

17.كذا ، وفي الإمامة والسياسة : «وثالث مشكور» .

18.الصم في الحجر : الشدّة . وحجر أصمّ : صلب مصمت (لسان العرب : ج ۱۲ ص ۳۴۶ «صمم») .

19.إشارة إلى تولية عمرو بن العاص غزوة ذات السلاسل .

  • نام منبع :
    موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج2
    سایر پدیدآورندگان :
    المساعدون : الطباطبائي نژاد،سيد محمود؛ السيّد طبائي،سيد روح الله
    تاریخ انتشار :
    1389
عدد المشاهدين : 140968
الصفحه من 411
طباعه  ارسل الي