5 . ليلة القدر واختلاف المناطق
تبرز واحدة من المسائل المهمّة على صعيد البحث في ليلة القدر ، بطبيعة هذه اللّيلة ، وفيما إذا كانت واحدة في المناطق المختلفة أم متفاوتة ؟ لقد قاد البحث في هذه المسألة إلى تبلور عدد من النظريات ، نشير لها كما يلي :
1 . النظرية المنسوبة إلى مشهور فقهاء الإمامية ، فيما يذهب إليه هؤلاء من عدم تساوي بداية الشهور القمرية في جميع البلدان ، بل يعدّ اتحاد الاُفق ۱ بينها شرطا في ثبوت الهلال . والنتيجة الّتي تترتّب على هذه النظرية ، أنَّ ليلة القدر لن تكون واحدة في جميع المناطق والبلدان .
2 . ما ذهب إليه عدد من المحققين ۲ ، من أنَّ بداية الشهور القمرية هي واحدة في جميع المناطق،وعندئذٍ إذا ثبت شهر رمضان في منطقة فسيثبت في بقية المناطق أيضا ۳ .
1.إلاّ في الحالات الّتي يثبت فيها الهلال بالرؤية القطعية .
2.لو اختلف الاُفق وشوهد الهلال في البلاد الغربيّة فهل يكفي ذلك للشرقيّة كبلاد الشام بالإضافة إلى العراق أو لا ؟
المعروف والمشهور هو الثاني ، حيث ذهبوا إلى القول باعتبار اتّحاد الاُفق . وذهب جمع من المحقَّقين إلى الأوَّل وأنَّ الثبوت في قطر كافٍ لجميع الأقطار ، منهم العلاّمة في المنتهى ، وصاحب الوافي والحدائق والمستند ، والسيّد الخونساري وغيرهم ، ومال إليه في الجواهر ، واحتمله الشهيد في الدروس ( مستند العروة الوثقى « كتاب الصوم » : ۲ / ۱۱۶ ) .
3.علاوة على تمسّكه بإطلاق الروايات ، استدلّ آية اللّه الخوئي ـ رضوان اللّه عليه ـ لإثبات هذه النظرية بمسألة نجومية ، حيث ذهب إلى القول في هذا السياق : « إنَّ القمر في نفسه جرم مظلم وإنما يكتسب النور من الشمس نتيجة المواجهة معها ، فالنصف منه مستنير دائما ، والنصف الآخر مظلم كذلك ، غير أنَّ النصف المستنير لا يستبين لدينا على الدوام ، بل يختلف زيادةً ونقصا حسب اختلاف سير القمر .
فإنَّه لدى طلوعه عن الاُفق من نقطة المشرق مقارنا لغروب الشمس بفاصل يسير في اللّيلة الرابعة عشرة من كلِّ شهر ، بل الخامسة عشرة فيما لو كان الشهر تامّا يكون تمام النصف منه المتّجه نحو الغرب مستنيرا حينئذٍ لمواجهته الكاملة مع النير الأعظم ، كما أنّ النصف الآخر المتّجه نحو الشرق مظلم .
ثُمّ إنَّ هذا النور يأخذ في قوس النزول في اللّيالي المقبلة ، وتقلُّ سعته شيئا فشيئا ـ حسب اختلاف سير القمر ـ إلى أن ينتهي في أواخر الشهر إلى نقطة المغرب بحيث يكون نصفه المنير مواجها للشمس ، ويكون المواجه لنا هو تمام النصف الآخر المظلم . وهذا هو الّذي يُعبَّر عنه بتحت الشعاع والمحاق ، فلا يرى منه أيّ جزء ؛ لأنَّ الطرف المستنير غير مواجه لنا لا كلاًّ كما في اللّيلة الرابعة عشرة ، ولا بعضا كما في اللّيالي السابقة عليها أو اللاحقة .
ثُمَّ بعدئذٍ يخرج شيئا فشيئا عن تحت الشعاع ، ويظهر مقدار منه من ناحية الشرق ويُرى بصورة هلال ضعيف ، وهذا هو معنى تكوُّن الهلال وتولُّده . فمتى كان جزء منه قابلاً للرؤية ولو بنحو الموجبة الجزئيَّة فقد انتهى به الشهر القديم ، وكان مبدأً لشهر قمري جديد .
إذا فتكوُّن الهلال عبارة عن خروجه عن تحت الشعاع بمقدار يكون قابلاً للرؤية ولو في الجملة ، وهذا كما ترى أمر واقعي وحداني لا يختلف فيه بلد عن بلد ، ولا صقع عن صقع ؛ لأنَّه كما عرفت نسبة بين القمر والشمس لا بينه وبين الأرض ، فلا تأثير لاختلاف بقاعها في حدوث هذه الظاهرة الكونيَّة في جوِّ الفضاء .
وعلى هذا فيكون حدوثها بدايةً لشهر قمري لجميع بقاع الأرض على اختلف مشارقها ومغاربها وإن لم يرَ الهلال في بعض مناطقها لمانع خارجي من شعاع الشمس ، أو حيلولة الجبال وما أشبه ذلك .
أجل ، إنَّ هذا إنّما يتَّجه بالإضافة إلى الأقطار المشاركة لمحلِّ الرؤية في اللّيل ولو في جزء يسير منه بأن تكون ليلة واحدة ليلةً لهما وإن كانت أوَّل ليلة لأحدهما ، وآخر ليلة للآخر المنطبق طبعا على النصف من الكرة الأرضيَّة دون النصف الآخر الّذي تشرق عليه الشمس عندما تغرب عندنا ، بداهة أنَّ الآن نهار عندهم فلا معنى للحكم بأنَّه أوَّل ليلة من الشهر بالنسبة إليهم .
ولعلَّه إلى ذلك يشير سبحانه وتعالى في قوله : « رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ » ( الرحمن : ۱۷ ) باعتبار انقسام الأرض بلحاظ المواجهة مع الشمس وعدمها إلى نصفين ، لكلٍّ منهما مشرق ومغرب ، فحينما تشرق على أحد النصفين تغرب عن النصف الآخر وبالعكس ، فمن ثمَّ كان لها مشرقان ومغربان .
والشاهد على ذلك قوله سبحانه : « يَــلَيْتَ بَيْنِى وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ » ( الزخرف : ۳۸ ) الظاهر في أنَّ هذا أكثر بعدا وأطول مسافةً بين نقطتي الأرض ، إحداهما مشرق لهذا النصف ، والاُخرى مشرق للنصف الآخر .
وعليه فإذا كان الهلال قابلاً للرؤية في أحد النصفين حُكم بأنَّ هذه اللّية أوَّل الشهر بالإضافة إلى سَكنة هذا النصف المشتركين في أنَّ هذه اللّيلة ليلة لهم ، وإن اختلفوا من حيث مبدأ اللّيلة ومنتهاها ... ـ إلى أن قال : ـ
فمقتضى هذه الروايات الموافقة للاعتبار عدم كون المدار على اتّحاد الاُفق ، ولا نرى أيَّ مقتضٍ لحملها على ذلك ، إذ لم يذكر أيّ وجه لهذا التقييد عدا قياس أمر الهلال بأوقات الصلوات الّذي عرفت ضعفه ، وأنَّه مع الفارق الواضح بما لا مزيد عليه .
ويؤكده ما ورد في دعاء صلاة يوم العيد من قوله عليه السلام : « أسألك بحقّ هذا اليوم الّذي جعلته للمسلمين عيدا » فإنَّه يعلم منه بوضوح أنَّ يوما واحدا شخصيّا يشار إليه بكلمة ( هذا ) هو عيد لجميع المسلمين المتشتِّتين في أرجاء المعمورة على اختلاف آفاقها ، لا لخصوص بلدٍ دون آخر .
وهكذا الآية الشريفة الواردة في ليلة القدر وأنَّها خير من ألف شهر ، وفيها يفرق كلُّ أمرٍ حكيم ، فإنَّها ظاهرة في أنَّها ليلة واحدة معيَّنة ذات أحكام خاصَّة لكافَّة الناس وجميع أهل العالم ، لا أنَّ لكلِّ صقع وبقعة ليلة خاصّة مغايرة لبقعة اُخرى من بقاع الأرض ( مستند العروة الوثقى « كتاب الصوم » : ۲ / ۱۱۸ ـ ۱۲۲ ) .