[ أقول : لمَّا آل أمر التحكيم إلى ما آل إليه، جمع معاوية من كان معه من قريش ، وفيهم عَمْرو بن العاص وحَبِيب بن مَسْلَمَة ، وشاورهم في أمر مصر ، وتكلَّم من تكلَّم ، وأجمع رأيهم على مكاتبة شيعة عثمان بمصر فكاتبوهم ، ثُمَّ عزموا على إرسال عَمْرو بن العاص إليها في ستة آلاف رجل ] ، فخرج عَمْرو حَتَّى دنا مصر ، ولاقى مُحَمَّد بن أبي بَكر عامل عليّ على مصر ، فنزل أداني مصر فاجتمعت إليه العثمانيّة ، فأقام بها ، وكتب إلى مُحَمَّد بن أبي بَكر :
أمَّا بعدُ ؛ فتنحّ عنّي بدمك يابن أبي بَكر ، فإنِّي لا أحبّ أن يصيبك منِّي ظفر ، وإنَّ النَّاس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ، ورفض أمرك ؛ وندموا على اتِّباعك ، وهم مُسْلِمُوك لو قد التقت حلقتا البطان ۱ ، فاخرج منها إنِّي لك من
النَّاصحين ، والسَّلام .
قال : وبعث عَمْرو أيضا مع هذا الكتاب بكتاب معاوية إليه ، وفيه :
أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ غبّ البغي والظُّلم عظيم الوبال ، وإنَّ سفك الدَّم الحرام لا يسلم صاحبه من النَّقمة في الدُّنيا ، والتَّبعة الموبقة في الآخرة ، وما نعلم أحدا كان أعظم على عثمان بغيا ، ولا أسوأ له عيبا ، ولا أشدّ عليه خلافا منك ، سعيت عليه في السَّاعين ، وساعدت عليه مع المساعدين ، وسفكت دمه مع السَّافكين ، ثُمَّ أنت تظنّ أنّي عنك نائمٌ ، ثُمَّ تأتي بلدةً فتأمن فيها وجلُّ أهلها أنصاري ؛ يرون رأيي ، ويرفعون قولي ، ويستصرخونني عليك ، وقد بعثت إليك قوما حناقا عليك ، يستسفكون دمك ، ويتقرّبون إلى اللّه بجهادك ، قد أعطوا اللّه عهدا ليقتلنَّك ، ولو لم يكن منهم إليك ما قالوا ، لقتلك اللّه بأيديهم أو بأيدي غيرهم من أوليائه ، فأُحذرك وأُنذرك ، وأحبّ أن يقتلوك بظلمك ووقيعتك وعدوانك على عثمان يوم الدَّار ، تطعن بمشاقصك فيما بين أحشائه وأوداجه ، ولكنّي أكره أن تقتل ، ولن يُسَلِّمَكَ اللّه ُ من القصاص أين كنت والسَّلام .
قال : فطوى مُحَمَّد بن أبي بَكر كتابيهما ، وبعث بهما إلى عليّ عليه السلام ، وكتب إليه :
أمَّا بعدُ ؛ فإنَّ العاصي ابن العاص قد نزل أداني مصر ، واجتمع إليه من أهل البلد كلُّ من كان يرى رأيهم ، وقد جاء في جيش جرّار ، وقد رأيت ممّن قبلي بعض الفشل ، فإن كان لك في أرض مصر حاجةٌ فأمددني بالأموال والرِّجال ، والسَّلام .
[ فكتب إليه عليّ عليه السلام . . . ما تقدَّم .
وكتب مُحَمَّد إلى معاوية وعَمْرو جواب كتابهما ، وأقبل عَمْرو بن العاص إلى مصر واستنفر عليّ عليه السلام أهل الكوفة ، فرأى فيهم التَّواني والتَّواكل والفشل ، فوعظهم فلم ينفعهم الوعظ والإنذار ، فقرب عَمْرو من مصر ، فقام مُحَمَّد في أهل مصر
خطيبا وقال ، في آخرها : ] انتدبوا إلى هؤلاء رحمكم اللّه مع كِنانَة بن بشر ، ومن يجيب معه من كِنْدَة ، فانتدب معه نحو ألفي رجل ، وخرج مُحَمَّد في نحو ألفين ، واستقبل عَمْرو كِنانَة وهو على مُقدّمَةِ محمّد ، فأقبل عَمْرو نحو كِنانَة ، فلمَّا دنا منه سرّح نحوه الكتائب كتيبةً بعد كتيبة ، فجعل كِنانَة لا يأتيه كتيبةٌ من كتائب أهل الشَّام إلاَّ شدّ عليها بمن معه فيضربها حَتَّى يلحقها بعمرو ، ففعل ذلك مرارا ، فلمَّا رأى عَمْرو ذلك ، بعث إلى معاوية بن حُدَيْج الكِنْديّ فأتاه في مثل الدَّهم ۲ ، فلمَّا رأى كِنانَة ذلك الجيش نزل عن فرسه ونزل معه أصحابه ، فضاربهم بسيفه وهو يقول : وما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلاَّ بِإِذْنِ اللّه كِتابا مُوجَّلاً ، ومَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُوتِهِ مِنْها ، ومَنْ يُرِدْ ثَوابَ الآخِرَةِ نُوتِهِ مِنْها ، وسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ . ثُمَّ ضاربهم بسيفه حَتَّى استشهد رحمه الله . ۳
1.في الصحاح : البطان ، للقتب الحزام الَّذي يجعل تحت بطن البعير .
2.في النهاية : الدهم : العدد الكثير .
3.الغارات : ج۱ ص۲۷۶ ـ ۲۸۲ ، وراجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج۶ ص۷۸ ـ ۹۲ ، تاريخ الطبري : ج۵ ص۱۰ ـ ۱۰۵ ، الكامل في التاريخ : ج۲ ص۴۱۱ ـ ۴۱۴ ، أنساب الأشراف : ج۳ ص۱۶۹ ـ ۱۷۳ ، البداية والنهاية : ج۷ ص۳۱۵ ـ ۳۱۷ .