43
اسباب اختلاف الحديث

مناهج العلاج الإثباتي

أشرنا آنفا إلى أنّه لايمكن الاعتماد على العلاج الثبوتي في المجالات العلميّة الّتي هي بحاجة إلى الإذعان بمدلول الحديثين المختلفين أو أحدهما ؛ كالفقه، والكلام، والتفسير بحمل الآية على مؤدّى الحلّ الثبوتي والبناء عليه . ۱
ولذلك نلاحظ أنّ علاج التنافي والتعارض المبحوث عنه في علم اُصول الفقه ممحَّض في مقام الإثبات ، ودائر مدار طرح أحد المتعارضين إذا لم يمكن التوفيق بينهما بجمع عرفي .
ولا يعالَج المختلفان ـ في العلاج الإثباتي ـ إلاّ بعد الفراغ عن اعتبار المختلفين سندا . مع أنه يكتفى في العلاج الثبوتي صِرف احتمال صدورهما عن المعصوم عليه السلام ثبوتا وفي نفس الأمر .
ثمّ إنّ علاج المختلفين في مقام الإثبات يكون تابعا لمقدار ما يتطلّبه المجال المبحوث عنه من اعتبار الأحاديث ، فالاعتبار الكافي في الفقه ۲ ـ وسائر العلوم المطلوبة لمقام العمل ـ ربما لايكفي في مجال العقائد والكلام والنجوم ونحوها؛ ممّا يكون المطلوب فيه العلم، ۳ كما أنّ التاريخ قد يختلف أيضا عن الفقه والكلام في ميزان الاعتبار الّذي يقتضيه . ۴

1.وأمّا صرف تصوير وجه من المعاني ومحض إبداء احتمال لتصحيح مؤدّاه ثبوتا ـ على فرض صدور الحديث ـ فلا بأس به .

2.وذلك للاكتفاء في الفقه ـ الموضوع لتشخيص الحكم الشرعي، والتكليف الفرعي ـ بالوثوق والاطمئنان ـ والمعبَّر عنه بالعلم العرفي ـ أو بالأمارات العقلائيّة الممضاة من قِبل الشارع ـ والمعبَّر عنها بالظنون الخاصّة ـ مع أنّهما لا يستلزمان العلم بالمؤدّى ، فحجّية الحديث الفقهي الموثوق بصدوره ـ كأمر عقلائي أو بتعبّد شرعي ـ كاشف عن اكتفاء الشارع بالخبر الجامع لشرائط الحجّية حتّى لو لم يوجب العلم .

3.وذلك لأنّ ضالّة المتعلّم والمحقّق في مثل هذه العلوم الحصول على الحقائق العلميّة المحضة النفس الأمرية ، وليس إلاّ ، فبقاء احتمال الخلاف لايترك مجالاً للعلم ولا يوجب ثلج اليقين .

4.كما نلاحظ أنّ المتعارف بين المؤرِّخين والملمّين بعلم التاريخ ـ من المسلمين وغيرهم ـ الاكتفاء في الإذعان بالمسائل التاريخيّة بما ربما يذكره أو يكتبه خبراء فنّ التاريخ ، فإنّ المؤرِّخين ـ في محاضراتهم وتأليفاتهم في التاريخ ـ يكتفون بكلام أمثالهم من دون أن يؤاخذوه بمستند متّصل الإسناد إلى من يخبره عن حسّ ، نعم يشترطون في اعتبار قول أهل الخبرة بالتاريخ بعدم توفّر قرائن وشواهد على خلافه وبعدم معارضة نقل المؤرِّخ بنقل مثله أو منافاته بالمسلّمات أو المشهورات التاريخية ، وهذا المعنى مستفاد من ديدنهم وسيرتهم العمليّة بأدنى تأمّل ، لايقال إنّ هذا من باب الجري على السيرة العقلائيّة في الاعتبار بقول أهل الخبرة في وجه خبرتهم ، لما يقال بأنّ الاكتفاء بهذا المقدار غير جارٍ في الفقه ، فلا يقتنعون في الإذعان بالمسائل الفقهيّة بكلام أمثالهم ، فثبت أنّه يُكتفى في فنّ التاريخ بما لايكتفى به في الفقه .


اسباب اختلاف الحديث
42

۱۹.ما رواه الصدوق بإسناده عن داوود بن فرقد، قال :سمعت أبا عبد اللّه عليهم السلام يقول : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ، ولا يكذب . ۱

۲۰.وكذا ما رواه ابن إدريس ـ نقلاً عن كتاب مسائل الرجال لعليّ بن محمّد (بإسناده) ـ أنّ محمّد بن عليّ بن عيسى كتب إليه ، يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك عليهم السلامقد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه، أو الردّ إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب عليه السلام : ما علمتم أنّه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموا فردّوه إلينا . ۲

ونحوهما من الروايات الجمّة ۳ الّتي لا يسع المجال لنقلها .
والملاحظ في هذا الحديث أنّ ما علم كونه من قولهم وجب الالتزام به ، وما لم يعلم أنّه منهم رُدَّ علمه وأمره إليهم .

1.معاني الأخبار : ص۱ ح۱ ، وسائل الشيعة : ج۲۷ ص۱۱۷ ح۳۳۳۶۰ .

2.السرائر : ج۳ ص۵۸۴ ، وسائل الشيعة : ج۲۷ ص۱۱۷ ح۳۳۳۶۹ .

3.ومن لطيف ما ورد في هذا المعنى ما حكاه ابن شهر آشوب عن أبي القاسم الكوفي: أنّ إسحاق الكندي ـ فيلسوف العراق في زمانه ـ كان قد أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغل نفسه بذلك، وتفرّد به في منزله ، وأنّ بعض تلامذته دخل يوما على الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، فقال له أبو محمّد عليه السلام : أما فيكم رجل رشيد يردع اُستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن ؟ فقال التلميذ : نحن من تلامذته، كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره ؟! فقال له أبو محمّد : أتؤدّي إليه ما اُلقيه إليك ؟ قال : نعم . قال : فصِر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله ، فإذا وقعت الاُنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها ، فإنّه يستدعي ذلك منك، فقل له : إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني الّتي قد ظننتها أنّك ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك : إنّه من الجائز؛ لأنّه رجل يفهم إذا سمع ، فإذا أوجب ذلك فقل له : فما يدريك لعلّه قد أراد غير الّذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعا لغير معانيه . فصار الرجل إلى الكندي، وتلطّف، إلى أن ألقى عليه هذه المسألة ، فقال له : أعد عليّ . فأعاد عليه، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة، وسائغا في النظر، فقال : أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك ؟ فقال : إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك . فقال: كلاّ، ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة ، فعرِّفني من أين لك هذا ؟ فقال : أمرني به أبو محمّد. فقال : الآن جئت به ، وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت . ثمّ إنّه دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألّفه . ( مناقب آل أبي طالب: ج۳ ص۵۲۵ ) .

  • نام منبع :
    اسباب اختلاف الحديث
    المساعدون :
    المسعودي، عبدالهادي؛ رحمان ستايش، محمد كاظم
    المجلدات :
    1
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1427 ق / 1385 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 221084
الصفحه من 728
طباعه  ارسل الي