195
ميزان الحکمه المجلد الثامن

لا يقبل الشِّركة لم يلبث دون أن حكم عليها أن ليس لشي‏ءٍ منها أن يربَّ غيره ويتولّى‏ تدبير النظام وأداء الاُمور ، فالأصنام تماثيل عملها الإنسان وسمّاها أسماء لم ينزِّل اللَّه عليها من سلطان ، وما هذا شأنه لا يربّ الإنسان ولا يملكه وقد عملته يد الإنسان . والأجرام العلويّة كالكوكب والقمر والشمس تتحوّل عليها الحال فتغيب عن الإنسان بعد حضورها ، وما هذا شأنه لا يكون له الملك وتولِّي التدبير تكويناً كما سيجي‏ء بيانه .
قوله تعالى‏ : (ولِيَكونَ مِنَ المُوقِنينَ) اللام للتعليل ، والجملة معطوفة على‏ اُخرى محذوفة ، والتقدير : ليكون كذا وكذا وليكون من الموقنين .
واليقين هو العلم الذي لا يشوبه شكّ بوجه من الوجوه ، ولعلّ المراد به أن يكون على‏ يقين بآيات اللَّه على‏ حدّ مافي قوله : (وجَعَلْنا مِنْهُم أئِمَّةً يَهْدُونَ بأمْرِنا لَمَّا صَبَروا وكانُوا بآياتِنا يُوقِنونَ)۱ وينتج ذلك اليقين بأسماء اللَّه الحسنى‏ وصفاته العُليا.
وفي معنى‏ ذلك ما أنزله في خصوص النبيّ صلى اللَّه عليه وآله ، قال : (سُبْحانَ الّذي أسرى‏ بِعَبْدِهِ لَيلاً مِن المَسْجِدِ الحَرامِ إلَى المَسْجِدِ الأقْصَى الَّذي بارَكْنا حَولَهُ لِنُريَهُ مِن آياتِنا)۲ وقال : (ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى‏ * لَقَدْ رأى‏ مِنْ آياتِ رَبِّهِ الكُبْرى‏)۳وأمّا اليقين بذاته المتعالية فالقرآن يجلّه تعالى‏ أن يتعلّق به شكّ أو يحيط به علم ، وإنّما يسلّمه تسليماً .
وقد ذكر في كلامه تعالى‏ من خواصّ العلم اليقينيّ بآياته تعالى‏ انكشاف ما وراء ستر الحسّ من حقائق الكون على‏ ما يشاء اللَّه تعالى‏ ، كما في قوله : (كلّا لَو تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحيمَ)۴وقوله : (كلّا إنّ كِتابَ الأبْرارِ لَفي عِلِّيّينَ * وما أدراكَ ما عِلِّيّونَ * كِتابٌ مَرْقومٌ * يَشْهَدُهُ المُقَرَّبونَ) .۵

1.السجدة : ۲۴ .

2.الإسراء : ۱ .

3.النجم : ۱۷ ، ۱۸ .

4.التكاثر : ۵ ، ۶ .

5.الميزان في تفسير القرآن : ۷/۱۶۹، والآيات من سورة المطفّفين : ۱۸-۲۱.


ميزان الحکمه المجلد الثامن
194

قال تعالى‏ : (قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ)۱ ، وقال تعالى‏ : (للَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرضِ)۲وقال تعالى‏ : (تَبارَكَ الّذي بِيَدِهِ المُلْكُ وهُوَ عَلى‏ كُلِّ شَي‏ءٍ قَديرٌ * الّذي خَلَقَ المَوتَ والحَياةَ - إلى‏ أن قال - الّذي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً)۳ والآيات - كما ترى‏ - تُعلّل الملك بالخلق ، فكون وجود الأشياء منه وانتساب الأشياء بوجودها وواقعيّتها إليه تعالى‏ هو المِلاك في تحقّق ملكه ، وهو بمعنى‏ ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره ولا يزول عنه إلى‏ غيره ، ولا يقبل نقلاً ولا تفويضاً يغني عنه تعالى‏ وينصب غيره مقامه .
وهذا هو الذي يفسّر به معنى الملكوت في قوله : (إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيئاً أنْ يَقولَ لَهُ كُنْ فيَكونُ * فسُبْحانَ الّذي بِيَدِهِ مَلَكوتُ كُلِّ شَي‏ءٍ)۴ فالآية الثانية تبيّن أنّ ملكوت كلّ شي‏ءٍ هو كلمة (كُن) الّذي يقوله الحقّ سبحانه له ، وقولُه فعلُه ، وهو إيجاده له .
فقد تبيّن أنّ الملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلَى اللَّه سبحانه وقيامها به ، وهذا أمر لا يقبل الشِّركة ويختصّ به سبحانه وحده ، فالربوبيّة التي هي الملك والتدبير لا تقبل تفويضاً ولا تمليكاً انتقاليّاً .
ولذلك كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلَى التوحيد هداية قطعيّة ، كما قال تعالى‏ : (أوَلَم يَنْظُروا في مَلَكوتِ السَّماواتِ والأرضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَي‏ءٍ وأنْ عَسى‏ أنْ يَكونَ قدِ اقْتَرَبَ أجَلُهُمْ فبَأيِّ حَديثٍ بَعْدَهُ يُؤمِنونَ)۵ والآية - كما ترى‏ - تحاذي أوّل سورة الملك المنقول آنفاً .
فقد بان أنّ المراد بإراءة إبراهيم ملكوت السماوات والأرض - على‏ ما يعطيه التدبّر في سائر الآيات المربوطة بها - هو توجيهه تعالى‏ نفسه الشريفة إلى‏ مشاهدة الأشياء من جهة استناد وجودها إليه ، وإذ كان استناداً

1.آل عمران : ۲۶ .

2.المائدة : ۱۲۰ .

3.الملك : ۱ - ۳ .

4.يس : ۸۲ ، ۸۳ .

5.الأعراف : ۱۸۵ .

  • نام منبع :
    ميزان الحکمه المجلد الثامن
    المجلدات :
    10
    الناشر :
    دارالحدیث
    مکان النشر :
    قم
    تاریخ النشر :
    1433
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 152154
الصفحه من 629
طباعه  ارسل الي