هو عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، أسلم بمكة ولم يكن بلغ يومئذ، وهاجر مع أبيه إلى المدينة، وكان يكنّى أبا عبد الرحمان.

عرض نفسه يوم بدر و أُحد للمشاركة في الجهاد فلم يقبل رسول اللّه، وعرضها في غزوة الخندق و له من العمر ۱۵ سنة، فقبله.(۱)

موقفه من نقل السنة النبوية

قال ابن حزم في كتاب الاِحكام في الباب الثامن والعشرين: المكثرون من الفتيا من الصحابة: عمر، وابنه عبد اللّه، علي، عائشة، ابن مسعود، ابن عباس، زيد بن ثابت فهم سبعة.

ولابن عمر في «مسند بَقيّ» ألفان وستمائة وثلاثون حديثاً بالمكرر، واتّفقا له على مائة وثمانية وستين حديثاً، وانفرد له البخاري بأحد وثمانين حديثاً، ومسلم بأحد وثلاثين حديثاً.(۲)

وقد جُمعت أحاديثه في المسند الجامع فبلغت۱۱۴۵ حديثاً في مختلف الاَبواب(۳)ونقل ابن سعد في طبقاته عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) انّه قال: لم يكن من أصحاب رسول اللّهأحد أحذر إذا سمع من رسول ا للّه (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً ألاّ يزيد فيه ولا ينقص منه ولا ولا من عبد اللّه بن عمر.(۴)

ويدل على شدّة تمسكه بالسنّة شواهد:

منها: انّه كان يشترط على من صحبه في السفر الفطر والاَذان والذبيحة، وكان يقول: و لئن أُفطِرَ في السفر فآخذَ برخصة اللّه أحبّ إليَّ من أن أصوم.

ونقل نافع انّعبد اللّه بن عمر لم يكن يصوم في السفر.(۵)ولقد أثبتنا في محلّه(۶)انّ السنّة هي الاِفطار في السفر و انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) سمّى الصائم في السفر عاصياً.

ومنها: ما أخرجه الترمذي في سننه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، انّ سالم بن عبد اللّه حدثه انّه سمع رجلاً من أهل الشام، وهو يسأل عبد اللّه بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج.

فقال عبد اللّه بن عمر: هي حلال، فقال الشامي: إنّ أباك قد نهى عنها، فقال عبد اللّه بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها و صنعها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أ أمرَ أبي نتبع، أم أمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ فقال الرجل: بل أمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال: لقد صنعها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) .(۷)

ومنها: ما رواه نافع انّ ابن عمر كان يتبع آثار رسول اللّه كلّ مكان صلّى فيه حتى انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل تحت شجرة فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة، ويصبُّ في أصلها الماء لكي لا تيبس.(۸)

وكان إذا قدم بسفر بدأ بقبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وعمر، فيقول: السّلام عليك يا رسول اللّه. السّلام عليك يا أبا بكر. السلام عليك يا أبتاه.(۹)

والعجب انّه مع زهده و تقشفه كان يتسامح مع الخلفاء الظالمين.

روى الثوري، عن عبد اللّه بن دينار ، قال: لما اجتمعوا على عبد الملك كتب إليه ابن عمر، أمّا بعد: فانّـي قد بايعت لعبد اللّه عبد الملك أمير الموَمنين بالسمع والطاعة على سنة اللّه وسنة رسوله فيما استطعت وانّ بنيّ قد أقرّوا بذلك.(۱۰)

كما نقل عن زيد بن أسلم انّ ابن عمر كان في زمان الفتنة لا يأتي أمير إلاّ صلّى خلفه وأدى إليه زكاة ماله، ثمّ نقل عن سيف المازني، قال: كان ابن عمر، يقول: لا أُقاتل في الفتنة وأُصلّي وراء من غلب.(۱۱)

ولهذه الشخصية مواقف متناقضة فتارة يتعاطف مع أئمة أهل البيت ويشهد على ذلك أُمور:

۱. يقول في سوَال السائل عن رأيه في عثمان وعلي: أمّا عثمان فقد عفا اللّه عنه و كرهتم أن يعفو اللّه عنه.

وأمّا علي: فابن عمّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وختنه وأشار بيده هذا بيته حيث ترون.(۱۲)

۲. نقل البخاري عن محمد بن أبي يعقوب، سمعت ابن أبي نُعْم سمعت عبد اللّه بن عمرو سأله عن المُحْرِم ـ قال شعبة ـ أحسبه يقتل الذباب فقال: أهل العراق يسألون عن الذباب وقد قتلوا ابن ابنة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : هما ريحانتاي من الدنيا.(۱۳)

۳. أخرج ابن ماجة عن نافع، عن ابن عمر ، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة وأبوهما خير منهما.(۱۴)

إلى غير ذلك من الاَحاديث التي تكشف النقاب عن تعاطفه مع أهل البيت (عليهم السلام) في حين انّه كانت له مواقف أُخرى كعدم مبايعته لعليٍّ عند بيعة المهاجرين والاَنصار له.

يقول الطبري: جاءوا بعبد اللّه بن عمر حتى يبايع علياً، فقال: بايع، قال: لا أُبايع حتى يبايع الناس، قال علي: دعوه، انّه لسيّء الخلق صغيراً وكبيراً.(۱۵)

وقال أيضاً لما قتل عثمان: بايعت الاَنصار علياً إلاّ نُفَيراً يسيراً، منهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ومحمد ابن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، كانوا عثمانية.

فقال رجل لعبد اللّه بن حسن: كيف أبى هوَلاء بيعة علي، و كانوا عثمانية؟ قال: أمّا حسّان فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع، وأمّا زيد بن ثابت فولاّه عثمان الديوان و بيت المال،... فامّا كعب بن مالك فاستعمله على صدقة «مزينة» وترك ما أخذ منهم له... الخ.(۱۶)هذا يكشف عن أنّ الامتناع عن البيعة كان لغايات دنيوية.

هذا بعض ما يمكن أن يذكر في ترجمته، وقد ترجمه بإسهاب ابن سعد في طبقاته، وابن الاَثير في أُسد الغابة، والذهبي في سير أعلام النبلاء إلى غير ذلك.

وقبل كلّ شيءنذكر أوّلاً نماذج من روائع أحاديثه.

روائع أحاديثه

۱. أخرج الترمذي في سننه، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): بُني الاِسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وانّ محمّداً رسول اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحجّ البيت.(۱۷)

۲.أخرج البخاري، عن واقد بن محمد، قال: سمعت أبي يحدّث عن ابن عمر ، انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أُمرت أن أُقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه، وانّمحمّداً رسول اللّه، ويقيموا الصلاة، ويوَتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّ الاِسلام وحسابهم على اللّه.(۱۸)

۳. أخرج ابن ماجة في سننه، عن سالم، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا يُلدغ الموَمن من جُحْر مرتين.(۱۹)

۴. أخرج الترمذي عن أبي اليقظان، عن زاذان، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ثلاثة على كثبان المسك ـ أراه قال يوم القيامة ـ : عبد أدّى حقّاللّه وحقّمواليه ، ورجل أمَّ قوماً و هم به راضون، ورجل ينادي بالصلوات الخمس في كلّيوم و ليلة.(۲۰)

۵. أخرج ابن خزيمة، عن نافع، عن ابن عمر: انّالشمس كسفت يوم مات إبراهيم ابن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فظنّ الناس انّها كسفت لموته، فقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «أيّها الناس إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه لا يُكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك، فافزعوا إلى الصلاة ، وإلى ذكر اللّه و ادعوا وتصدَّقوا».(۲۱)

۶.أخرج ابن ماجة في سننه، عن محارب بن دثار، عن عبد اللّه بن عمر ، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق.(۲۲)

۷. أخرج ابن ماجة في سننه عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : التاجر الاَمين الصدوق المسلم، مع الشهداء يوم القيامة.(۲۳)

۸. أخرج ابن ماجة في سننه، عن أبي شجرة كثير بن مرّة، عن ابن عمر ، انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إقامة حدٍّ من حدود اللّه خير من مطر أربعين ليلة في بلاد اللّه عزّوجلّ.(۲۴)

۹. أخرج البخاري في صحيحه، عن عمر بن محمد، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت انّه سيورِّثه.(۲۵)

۱۰. أخرج أحمد في مسنده، عن خالد بن أبي عمران، عن نافع، عن ابن عمر: انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله. ويقول: والذي نفس محمّد بيده ما توادّ اثنان ففُرِّق بينهما إلاّ بذنب يحدثه أحدهما.

وكان يقول: للمرء المسلم على أخيه من المعروف ست: يسمِّته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، و يُنصحه إذا غاب، ويشهده و يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويتبعه إذا مات، و نهى عن هجرة المسلم أخاه فوق ثلاث.(۲۶)

۱۱. أخرج مسلم في صحيحه، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» ، انّه قال: ألا كلّكم راع و كلّكم مسوَول عن رعيته، فالاَمير الذي على الناس راع وهومسوَول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسوَول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسوَولة عنهم، و العبد راع على مال سيده وهو مسوَول عنه، ألا فكلكم راع و كلّكم مسوَول عن رعيته.(۲۷)

۱۲. أخرج أحمد في مسنده، عن محارب بن دثار ،عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : أيها الناس اتقوا الظلم فانّه ظلمات يوم القيامة.(۲۸)

هذه نماذج من روائع أحاديثه، وإليك بعض ما عُزيت إليه من الروايات السقيمة التي لا يذعن بها الكتاب ولا السنة ولا العقل الحصيف.

أحاديثه السقيمة

۱.ليس الاَمر بيد الاِنسان

أخرج الاِمام أحمد في مسنده، عن يحيى بن يعمر، قلت لابن عمر: إنّ عندنا رجالاً يزعمون انّ الاَمر بأيديهم فإن شاءوا عملوا و إن شاءوا لم يعملوا، فقال: أخبرهم إنّي منهم بريء وإنّهم مني بُرآء.

ثمّ قال: جاء جبرئيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد ما الاِسلام؟ فقال: تعبد اللّه لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة، إلى أن قال: ... فما الاِيمان؟ قال: توَمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله و البعث من بعد الموت والجنّة والنار والقدر كلّه، قال: فإذا فعلت ذلك فأنا موَمن؟ قال: نعم، قال: صدقت.(۲۹)

إنّ المروي موَلف من كلام ابن عمر وكلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فالكلام في صحّة ما استنبطه هو من كلام الرسول.

لا يشكّ أيّ مسلم و موَمن في أنّ للّه سبحانه تقديراً في عالم التكوين والتشريع وتدلّ عليه طائفة من الآيات والروايات.

قال سبحانه: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الاََرْضِوَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّفي كِتابٍمِنْ قَبل أَنْ نَبْرَأَها انّذلِكَ على اللّه يَسِير ) (الحديد/۲۲).

وقال سبحانه: (انّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكة إِنّا كُنْا مُنْذِرينَ* فِيها يُفرقُ كُل أمرٍ حَكيمٍ) (الدخان/۳و۴).

كما لا شكّ انّ هناك أُموراً ليس للاِنسان فيها دور شاء أم لم يشاء، فقد كتب على كلّ إنسان عدم الخلود، قال سبحانه: (وَما جَعَلْنا لِبَشَـرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخالِدُونَ) (الاَنبياء/۳۴).

إلى غير ذلك من الحوادث والنوازل التي تنهب نفس الاِنسان ونفيسه ومن حسن الحظ انّ تلك الاَُمور الخارجة عن إطار الاختيار ليست ملاكاً للثواب والعقاب ولا للحسن والقبح، فليس لمشيئة الاِنسان أيّ دور فيها.

إنّما الكلام فيما يقوم به الاِنسان من الاَعمال التي عليها يدور رحى الاِيمان والكفر ، والثواب والعقاب، وقد سئل ابن عمر عن هذا القسم من الاَُمور، حيث قال السائل: « إنّ عندنا رجالاً يزعمون انّ الاَمر بأيديهم فإن شاءوا عملوا و إن شاءوا لم يعملوا» و لا شكّ انّ هذا القسم من الاَفعال بيد الاِنسان ومشيئته فعلاً وتركاً فهو بحول اللّه وقوته يقوم بهذا الاَمر أو يتركه في ضوء الاختيار الذي فطر اللّه الاِنسان عليه، فإنكار المشيئة في هذا النوع من الاَفعال يلازم الجبر المطلق ويعارض الهدف الذي بعث لاَجله الاَنبياء.وبالتالي يكون الاِنسان مكتوف اليدين في مسرح الحياة فما استنتجه ابن عمر من حديث الرسول فرض على الحديث وليس الحديث ناظراً إلى سلب الاختيار، بل تقديره سبحانه في حقّ الاِنسان هو أن يكون إنساناً مختاراً، يعمل بما شاء وفق مشيئته واختياره.

وبعبارة أُخرى لا مانع أن يكون هذا القسم من الاَفعال مقدراً من جانبه سبحانه، وفي نفس الوقت يكون فعله وتركه بيد الاِنسان ، وذلك لاَنّ المقدر فيه هو كون الاِنسان مختاراً، وأن يكون الفعل والترك باختياره، فالقول بالاختيار لا يخالف التقدير.

فكما انّ أصل الفعل مقدّر من جانبه سبحانه، كذلك وصفه أي صدوره عن فاعل مختار باختياره أيضاً مقدّر ، فلو أنكرنا مشيئتهم ودورهم في أفعالهم فقد أنكرنا تقدير اللّه سبحانه في أفعال الاِنسان.

۲. النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يمنع من البكاء على حمزة

أخرج ابن ماجة في مسنده، عن نافع، عن ابن عمر: انّ رسول اللّه «صلى الله عليه وآله وسلم» مرَّ بنساء عبد الاَشهل يبكين هلكاهنَّ يوم أُحد، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : لكنَّ حمزة لا بواكي له.

فجاء نساء الاَنصار يبكينَ حمزة، فاستيقظ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «ويحهنَّ ما انقلبنَ بعدُ؟ مروهنَّ فلينقلبن ولا يبكين على هالك بعد اليوم».(۳۰)

والحديث لا يخلو عن إشكالات:

الاَوّل: انّ الاِسلام دين الفطرة، وتشريعاته تطابق ما جُبل عليه الاِنسان ولا شكّ انّ الاِنسان عند فقدان الاَحبّة يلوع قلبه وتدمع عينه ويعلو صوته بالبكاء، فالنهي عن مثل هذا الاَمر، نهي عن مقتضى الفطرة والتي عليها بُني الدين، قال سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاس عَلَيْها)(الروم/۳۰).

لما أُصيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوفاة ولده إبراهيم، ذرفت عيناه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال : إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين، و يحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، ولولا انّه وعد صادق وموعود جامع فإنّ الآخر منا يتبع الاَوّل وجدنا عليك يا إبراهيم وجداً شديداً أشد من هذا، وانّا بك يا إبراهيم لمحزونون.(۳۱)

فإذا كان كذلك فالنهي عنه أمر غير معقول إلاّ إذا تكلم بما فيه سخط الرب والاِطاحة بتقديره سبحانه وقضائه، وأمّا إظهار حزنه بذرف الدموع على صفحات الوجه، وإظهار اللوعة بالنوح فهذا ممّا لا شبهة في جوازه.

وعلى ضوء ذلك رغّب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبكاء على حمزة لما دخل المدينة بعد غزوة أُحد ورأى النساء يبكين على قتلاهنّ، بكى، وقال: أمّا حمزة فلا بواكي له.(۳۲)وبذلك حرّض النساء على البكاء على حمزة.

لما استشهد جعفر في موَتة دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيت جعفر ليعزي أسماء بنت عميس، فلمّا أراد أن يخرج قال:على مثل جعفر فلتبكي البواكي.(۳۳)

أخرج الحاكم بسنده، عن أبي هريرة، قال: خرج النبي على جنازة ومعه عمر ابن الخطاب فسمع نساءً يبكين، فضربهنَّ عمر، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عمر دعهنَّ، فانّ العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب.(۳۴)

كلّ ذلك يعرب عن موقف الاِسلام من البكاء على الميت وانّه لم ينه من البكاء وإنّما نهى عن الكلمات التي تُسخط الرب.

الثاني: انّ ذيل الحديث يناقض صدره فانّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «لكن حمزة لا بواكي له» يحرِّض النساء على البكاء على حمزة، وعلى ذلك فقد اجتمعت النساء للبكاء عليه بأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فما معنى لما جاء في ذيل الحديث «فاستيقظ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: ويحهنَّ ما انقلبن بعدُ، مروهنّ فلينقلبن ولا يبكين على هالك بعد اليوم» ؟!

الثالث: استشهد حمزة في غزوة أُحد و هو في السنة الثانية من الهجرة مع أنّ الرسول بكى بعده مرات، حيث بكى على ابنه الذي توفي في العام العاشر من الهجرة، كما بكى عند قبر أُمّه.

روى الحاكم في المستدرك بسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: زار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبر أُمّه في ألف مقنع فلم ير باكياً أكثر من يومئذ.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.(۳۵)

وأمّا ما أثر عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في فضيلة البكاء على الحسين (عليه السلام) وغيره من الاَئمة المعصومين (عليهم السلام) فحدِّث عنه ولا حرج.

۳. طلب العلم لغير اللّه

أخرج ابن ماجة في مسنده، عن خالد بن درْيك، عن ابن عمر ، انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من طلب العلم لغير اللّه، أو أراد به غير اللّه، فليتبوّأ مقعده من النار.(۳۶)

يلاحظ عليه: أنّ مفاد الحديث هو انّ طلب العلم فريضة عبادية لا تطلب إلاّ لوجه اللّه فلو طلب لغيره، فقد ترك الفريضة.

توضيحه: انّ الواجب على قسمين: تعبدي و توصلي، ويراد من الاَوّل ما يوَتى به لوجه اللّه تبارك و تعالى و امتثال أمره بحيث لو قصد به غيره لبطل العمل، كما إذا صلّى رياءً وسمعة.

ويراد من الثاني ما يكون المطلوب نفس العمل سواء أتى به لوجه اللّه أو لغيره، وهذا كما في تطهير الثوب للصلاة فلو طهّره لا للصلاة بل لغاية أُخرى صحّ تطهيره وصحّت إقامة الصلاة فيه.

وعلى ضوء هذا نقول: إنّ طلب العلم يوصف بالوجوب تارة والندب أُخرى والاِباحة ثالثاً والكراهة رابعاً والحرمة خامساً.

فطلب علم الشريعة وأحكامها واجب توصلي لا تعبدي، فلو طلبه لغايات دنيوية فقد امتثل الواجب غاية الاَمر لا يترتب عليه ثواب إذا لم يقصد به وجه اللّه لا انّه يوعد بالنّار كما في الحديث.

كما أنّ طلب العلم إذا كان مستحباً فهو مطلوب توصلي يقصد به أن يقف الطالب على ما دعا إليه الشارع والغاية حاصلة وان طلبها لاَجل أُمور أُخرى ولا يحكم عليه بالفسق والعصيان.

وأمّا ما في الرواية فمعناه انّ طلب العلم فيما يرتبط بالواجبات والمستحبات يجب أن يقصد به وجه اللّه، فمن ترك الشرط وطلبه لغير اللّه فلم يأت بالفريضة، وهذا أمر لا يوافق عليه أحد .

هذا حكم الواجب أو المستحب من طلب العلم وأمّا طلب العلم المباح وغيره فلا أظن أحداً يشترط فيه وجه اللّه على نحو لو طلب العلوم الرياضية أو الفيزياوية لرفاه حاله وحال عياله فقد ارتكب معصية موبقة يتبوّأ مقعده من النار.

ولعلّ المراد من العلم هو علم الشريعة والاِيعاد بالنار يختص بما إذا كانت الغاية من تعلّمه، أمراً حراماً، فعندئذٍ عليه أن يتبوّأ مقعده من النار، فتدبّر.

۴. أفضل الناس بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة

أخرج البخاري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا نخيّر بين الناس في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فنخير أبا بكر ثمّ عمر بن الخطاب ثمّ عثمان بن عفان.(۳۷)

أخرج أحمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن ابن عمر ، قال: كنّا نعدّ ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيّ وأصحابه متوافرون أبو بكر وعمر و عثمان ثمّ نسكت.(۳۸)

أخرج أبو داود، عن سالم بن عبد اللّه، عن ابن عمر، قال: كنّا نقول و رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيّ: أفضل أُمّة النبيبعده أبو بكر ثمّ عمر ثم عثمان رضي اللّه عنهم أجمعين.(۳۹)

أخرج أبو داود عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنّا نقول في زمن النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» : لا نعدل بأبي بكر أحداً ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ نترك أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا نفاضل بينهم.(۴۰)

يستفاد من الحديث أمران:

الاَوّل : أفضلية الثلاثة على غيرهم من الناس.

الثاني: الناس بعد الثلاثة كلّهم في الفضل سواء .

فيقع الكلام في مقامين:

الاَوّل: أفضلية الثلاثة على غيرهم

إنّ ما عُزِي إلى ابن عمر إنّما هو استنباط شخصي يعود إليه، و لم يعرج المستنبط فيه على دليل واضح وبرهان ساطع .

إنّ تفضيل الثلاثة على غيرهم فرع وجود ملاكات توفرت فيهم دون غيرهم وعلى أساسها فُضِّلوا بها على غيرهم.

إنّ هذه الملاكات لا تخرج عن أحد أمرين:

أ. ملاكات روحية وفضائل نفسانية.

ب. ملاكات عملية وسلوكية.

وإليك الكلام في كلا الملاكين:

أ. الملاكات الروحية والفضائل النفسانية

لا شكّ انّ الملاكات الروحية كالسبق إلى الاِسلام والاِيمان باللّه والخشوع امامه و العلم الغزير الذي يفيد الناس تعد سبباً للتقدّم، ولكن لا أظن سبق الخلفاء الثلاثة على غيرهم في هذا المضمار وفي الاَُمّة مثل علي بن أبي طالب «عليه السلام» أوّل الناس إسلاماً وأتقاهم وأزهدهم وأقضاهم وأعلمهم. ويكفي في ذلك، الاِمعان فيما نزل في حقّه في سورة الاِنسان ، فقد اتّفقت الاَُمّة على نزولها في حقّه وزوجته وأولاده، قال سبحانه: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُريدُمِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً * إِنّا نَخافُمِنْ رَبِّنا يَوماً عَبُوساً قَمْطَريراً * فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ اليَومِ وَلَقّاهُمْ نَضْرةً وَسُروراً) (الاِنسان/ ۸ ـ ۱۱).

وقد ضحّى بنفسه عندما نام على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت في حقّه الآية التالية: (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللّهِ وَاللّهُ رَوَوفٌ بِالعِباد) (البقرة/۲۰۷) وهذا غاية الزهد في الدنيا والتجافي عنها.

وقد بلغ من الاِيمان بمكان عُدّ تأمينه لدعاء النبي موجباً لنزول العذاب حيث شارك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المباهلة مع زوجته وولديه، ونزل قوله سبحانه: (فَمَنْ حاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُل تَعالَوا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّهِ عَلى الكاذِبينَ) (آل عمران/۶۱).

فهذه الآيات وما ورد حولها من الكلمات تعرب عن وجود فضائل و مناقب فائقة لعلي (عليه السلام) أدّت إلى تفضيله على غيره، فكيف يقول ابن عمر: «كنّا نعدّ ورسول اللّه حيّ وأصحابه متوافرون أبو بكر وعمر و عثمان ثمّ نسكت».

وقد بلغ في العلم بالعقيدة والشريعة مقاماً كان يربو بعلمه على جميع الصحابة وكانوا يرجعون إليه في القضايا والمشكلات دون غيره وانّ أوّل من صرح له بالاَعلمية نبي الاِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله لفاطمة «عليها السلام»: أما ترضين انّي زوّجتك أوّل المسلمين إسلاماً، وأعلمهم علماً.(۴۱)

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لها: زوجتك خير أُمّتي، أعلمهم علماً، وأفضلهم حلماً، وأوّلهم سلماً.(۴۲)

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لها: إنّه لاَوّل أصحابي إسلاماً، وأقدم أُمّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً.(۴۳)

وقد اعترف ثلة من الصحابة والصحابيات بفضيلته وهذه عائشة تقول: عليّ أعلم الناس بالسنة.(۴۴)

ويقول عمر: علي أقضانا.(۴۵)

وقد اشتهر قول عمر: لولا علي لهلك عمر اشتهاراً لا حاجة به إلى تخريج سنده.(۴۶)

ب. الملاكات العملية والسلوكية

ثمة ملاكات عملية يقوَّم بها الموَمن حال حياته وأفضلها الجهاد في سبيل اللّه قال سبحانه: (فَضَّلَ اللّهُ المُجاهِدينَ عَلى القاعِدينَ أَجْراً عَظِيماً)(النساء/۹۵).

ولا شكّ انّ عليّاً (عليه السلام) أكثر الناس جهاداً وقد شارك في جميع الغزوات إلاّ غزوة تبوك فخلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة بأمره.

والعجب انّ عبد اللّه بن عمر صاحب هذا الاجتهاد، استنتج خلاف ما جاء في هذا الحديث، في حديث آخر أخرجه عنه الاِمام أحمد في مسنده عن عمر بن أسيد، عن ابن عمر ، قال: كنّا نقول في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول اللّه خير الناس ثمّ أبو بكر ثمّ عمر ولقد أُتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لاَن تكون لي واحدة منهن أحبُّ إليَّ من حُمر النعم زوّجه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ابنته وولدت له، وسدّ الاَبواب إلاّ بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر.(۴۷)

ترى فيه تراجعاً عن رأيه في حقّ الشيخين، فمع انّه يعترف في صدر الحديث بأفضليتهما، ولكن يستدرك بأنّ ابن أبي طالب أُتي ثلاث خصال ليس له فيها نظير.

وأظن انّ ابن عمر اقتبس ما استنبطه في حقّ علي (عليه السلام) من كلام سعد بن أبي وقاص على ما أخرجه مسلم في صحيحه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، قال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب، فقال: امّا ما ذكرت ثلاثاً، قالهنّ له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلن أسبَّه، لاَن تكون لي واحدة منهنّ أحبُّ إليَّ من حمر النعم، سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول اللّه خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول اللّه: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبي بعدي.

وسمعته يقول يوم خيبر: لاَعطينّ الراية رجلاً يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي علياً (عليه السلام) ، فأُتي به أرمد، فبصق في عينه ودفع الراية إليه، ففتح اللّه عليه.

ولما نزلت هذه الآية: (فَقُلْ تَعالَوا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبناءَكُمْ ) دعا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً (عليهم السلام) فقال: اللهمّ هوَلاء أهلي.(۴۸)

إنّ ما استنتجه عبد اللّه بن عمر إنّما يصحّ إذا لم يكن بين الصحابة من هو أفضل منهم، وهل يتصور أن يكون الثلاثة أفضل من أبي ذر الذي عرّفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى»؟(۴۹)

لقد كان بين الصحابة من ملىَ إيماناً إلى مشاشه و ما عرض عليه أمران إلاّ اختار الاَرشد منهما و انّرسول اللّه أمر بحبه.

أخرج ابن ماجة، عن علي بن أبي طالب، قال: كنت جالساً عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستأذن عمّار بن ياسر ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ائذنوا له مرحباً بالطيب المطيب.(۵۰)

وروي أيضاً انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ملىَ عماراً إيماناً إلى مشاشه.(۵۱)

وروي عن عائشة قالت: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) :

عمار ما عرض عليه أمران إلاّ اختار الاَرشد منهما.(۵۲)

وروي عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : انّ اللّه أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنّه يحبهم قيل: يا رسول اللّه من هم؟ قال: علي منهم، يقول ذلك ثلاثاً، و أبو ذر و سلمان والمقداد.(۵۳)

الثاني: كلّ الناس بعد الثلاثة في الفضل سواء

إنّ الحديث كما كان يتضمن أفضلية الثلاثة من جميع الناس، يتضمن أيضاً انّ سائر الناس في الفضل سواسية، وهذا أيضاً مخالف لاِجماع المسلمين على أفضلية علي عن غير الثلاثة من الصحابة كما هو واضح، و لذلك نرى انّ ابن عبد البر أنكر صحّة الحديث، ويقول:

قال أبو عمرو : من قال بحديث ابن عمر: كنا نقول على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : أبو بكر، ثمّ، ثمّ، ثمّ عثمان، ثم نسكت ـ يعني فلا نفاضل ـ و هو الذي أنكر ابن معين وتكلم فيه بكلام غليظ، لاَنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنة من السلف والخلف من أهل الفقه و الاَثر: انّ علياً أفضل الناس بعد عثمان، وهذا ممّا لم يختلفوا فيه و إنّما اختلفوا في تفضيل عليّوعثمان.(۵۴)

۵. أصحابي كالنجوم

أخرج ابن حميد عن نافع، عن ابن عمر ، انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: مثل أصحابي مثل النجوم يهتدي به، فأيّهم أخذتم بقوله اهتديتم.(۵۵)

يلاحظ عليه : أنّ متن الحديث يكذب صدوره إذ ليس كلّنجم هادياً في البرّ و البحر بل هناك نجوم خاصة للاهتداء، ولاَجل ذلك قال سبحانه: (وَعَلاماتٌ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون) (النحل/۱۶).

وأمّا قوله سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها في ظُلُماتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَومٍ يَعْلَمُونَ) (الاَنعام/۹۷) فاللام في النجوم للعهد، أي النجوم المعهودة التي كانت العرب يومذاك يهتدون بها في البر والبحر وليست للاستغراق.

ولا يتمشى ذلك الحمل في الحديث، لاَنّ الغاية فيها التبسيط والتعميم لكلّ صحابي كما هو صريح قوله: «فأيّهم أخذتم بقوله اقتديتم» فلا محيص من حمل «كالنجوم» على الاستغراق والمفروض انّ كلّ نجم ليس هادياً.

ولو افترضنا الاهتداء بكلّ نجم في السماء، أفهل يمكن أن يكون كلّ صحابي نجماً لامعاً هادياً للاَُمّة؟ فهذا قدامة بن مظعون، صحابي بدري يعد من السابقين الاَوّلين ومن المهاجرين هجرتين، شرب الخمر وأقام عليه عمر الحدّ، كما أنّ المشهور انّ عبد الرحمان الاَصغر بن عمر بن الخطاب قد شرب الخمر.(۵۶)

كما انّ بعض الصحابة خضّب وجه الاَرض بالدماء فمن استقصى تاريخ حياة بسر بن أرطأة يجد انّه اقترف جرائم كثيرة، حتّى قتل طفلين لعبيد اللّه بن عباس، و كم بين الصحابة رجال قد احتفل التاريخ بضبط مساوئهم، أفبعد هذه البيّنات يصحّ لاَحد أن يتقوّل بأنّهم جميعاً ـ بلا استثناء ـ كالنجوم يهتدى بهم؟!

يقول أبو جعفر النقيب: إنّهذا الحديث من موضوعات متعصبة الاَموية، فإنّ منهم من ينصرهم بلسانه و بوضعه الاَحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف.(۵۷)

ولعل القارىَ الكريم يتصور انّ أباجعفر النقيب ممن ينفرد في شأن هذه الرواية و ليس الاَمر كذلك ، بل حكم بوضعه كثير من محقّقي السنّة، وقد رويت بصور مختلفة:

أ. أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم؛ رواه ابن عبد البر في جامع العلم (۲/۹۱) ،و ابن حزم في الاحكام (۶/۸۳) من طريق سلام بن سليم، قال: حدثنا الحارث بن غصين، عن الاَعمش، عن أبي سفيان، عن جابر مرفوعاً به، وقال ابن عبد البر:«هذا إسناد لا تقوم به حجّة، لاَنّ الحارث بن غصين مجهول».

وقال ابن حزم:«هذه رواية ساقطة، أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الاَحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك».(۵۸)

ب. مهما اوتيتم من كتاب اللّه فالعمل به ، لا عذر لاَحدكم في تركه، فإن لم يكن في كتاب اللّه، فسنّة منّي ماضية، فإن لم يكن سنة مني ماضية فما قال أصحابي، إنّ أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيّها أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة.

أخرجه الخطيب في الكفاية في علم الدراية ، ص ۴۸، وكذا أبو العباس العصم وابن عساكر (۷/۳۱۵/۲) من طريق سليمان بن أبي كريمة، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعاً.

وهذا اسناد ضعيف جداً، سليمان بن أبي كريمة، قال ابن أبي حاتم (۲/۱/۱۳۸) عن أبيه «ضعيف الحديث».

وجويبر هو ابن سعيد الاَزدي متروك كما قال الدار قطني، والنسائي وغيرهما، والضحاك هو ابن مزاحم الهلالي لم يلق ابن عباس.(۵۹)

ج. سألت ربّي فيما اختلف فيه أصحابي من بعد فأوحى اللّه إليّ: يا محمد: انّ أصحابك عندي بمنزلة النجوم بعضها أضوأ من بعض، فمن أخذ بشيء مما هم عليه فهو عندي على هدى.

رواه ابن بطّة في الابانة(۴/۱۱/۲) والخطيب أيضاً، نظام الملك في الاَمالي(۱۳/۲) والضياء في المنتقى عن مسموعاته بمرو(۱۱۶/۲) وكذا ابن عساكر (۶/۳۰۳/۱) من طريق نعيم بن حماد، حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب مرفوعاً.

وهذا السند موضوع، نعيم بن حماد ضعيف، قال الحافظ: يخطأ كثيراً. وعبد الرحيم بن زيد العمي كذاب فهو آفة.(۶۰)

هذا قليل من كثير ممّا ذكره الشيخ الالباني المعاصر في كتابه، و من أراد التفصيل فليرجع إلى نفس الكتاب .

وقد أضاف في آخر تحقيقه، وقال: لو صحّ هذا الخبر يكون المراد إنّ ما قالوه برأيهم يجب العمل به، وهذا دليل آخر على أنّالحديث موضوع، وليس من كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كيف يسوغ لنا أن نتصور انّ النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» يبرر لنا أن نقتدي بكل رجل من الصحابة مع أنّ فيهم العالم والمتوسط في العلم،ومن هو دون ذلك وكان فيهم مثلاً من يرى انّ البردة لا يفطر الصائم بأكله.(۶۱)

روى أنس قال:

مطرت السماء برداً، فقال لناأبو طلحة: ناولوني من هذا البرد، فجعل يأكل وهو صائم وذلك في رمضان، فقلت: أتأكل وأنت صائم؟فقال: إنّما هو برد نزل من السماء فطهر به بطوننا، وإنّه ليس بطعام ولا بشراب، فأتيتُ رسول اللّه «صلى الله عليه وآله وسلم» فأخبرته بذلك، فقال: خذها عن عمِّك(۶۲)

۶. أوّل من تنشق عنه الاَرض

أخرج الترمذي في مسنده، عن عبد اللّه بن دينار، عن ابن عمر ، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : أنا أوّل من تنشق عنه الاَرض، ثمّ أبو بكر، ثمّعمر، ثمّ آتي أهل البقيع فيحشرون معي، ثمّ أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين.(۶۳)

يلاحظ عليه: أنّ الهدف من وراء هذا الترتيب هو بيان الاَفضلية فالاَفضل والاَفضل تنشق عنه الاَرض حتى تصل النوبة إلى غيره، وعلى ضوء هذا الحديث انّ أهل البقيع يحشرون في الدرجة الثالثة ويعقبهم أهل مكة في الدرجة الرابعة ومعنى ذلك انّ هوَلاء أفضل من وطئوا الاَرض فيقدمون في الحشر ، وتصبح النتيجة انّ غيرهم يتأخرون فضيلة عنهم كعلي بن أبي طالب و الحسن بن علي ونظائرهما الذين لهم أضرحة خارج مكة والمدينة وهل الاَمر كذلك؟!لا أدري..

وثمة نكتة جديرة بالاِشارة، هي انّ هذا الحديث يشير إلى أنّ الحشر يوم القيامة أمر تدريجي، فالناس يحشرون و يخرجون من أجداثهم تدريجاً مع أنّه يخالف ما عليه ظاهر القرآن من وقوع البعث بغتة وحشر الناس دفعة واحدة.قال سبحانه: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الاََجْداثِ إِلى رَبِّهِمْيَنْسِلُونَ)(يس/۵۱)وقال تعالى :(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُون)(الزمر/۶۸) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في وقوع القيامة فجأة وحشر الناس جميعهم دفعة لا تدريجاً، و هذا على خلاف ما جاء في الرواية «ثم انتظر أهل مكة ...».

۷. الحط من منزلة بعض الصحابة

أخرج مسلم في صحيحه، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عمر، انّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : أمر بقتل الكلاب إلاّ كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية، فقيل لابن عمر: إنّ أبا هريرة يقول: أو «كلب زرع» فقال ابن عمر: إنّ لاَبي هريرة زرعاً.(۶۴)

يشير ابن عمر إلى ما رواه أبو هريرة، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : من اتخذ كلباً إلاّ كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كلّ يوم قيراط، قال الزهري: فذكر لابن عمر قول أبي هريرة ، فقال: يرحم اللّه أبا هريرة كان صاحب زرع.(۶۵)

وكان ابن عمر يشير بقوله: إنّ لاَبي هريرة زرعاً، انّه أضاف هذا الاستثناء لاَجل امتلاكه زرعاً وحرثاً ولولاه لما أضاف، ومعنى ذلك انّ أبا هريرة زاد على الحديث من جانبه.

ويوَيد ذلك أمران:

أ. انّه نُقل الحديث عن أبي هريرة مرّة بلا هذه الزيادة، أخرج مسلم، عن أبي رزين، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : من اتخذ كلباً ليس بكلب صيد ولا غنم نقص من عمله كلّيوم قيراط.(۶۶)

ب. انّه لما ذكر لابن عمر قول أبي هريرة، أجابه بقوله: يرحم اللّه أبا هريرة كان صاحب زرع، فانّه يشير باسترحامه عليه إلى زلّته في ذلك النقل.

هذا هو المفهوم من الرواية، ولكن النووي حمل الرواية على غير ما هو المفهوم عرفاً، وقال نقلاً عن العلماء:ليس هذا توهيناً لرواية أبي هريرة ولا شكاً فيها، بل معناه انّه لما كان صاحب زرع وحرث اعتنى بذلك وحفظه وأتقنه، والعادة انّ المبتلي بشيء يُتقنه ما لا يتقنه غيره ويتعرض من أحكامه ما لا يعرفه غيره.(۶۷)

أقول: لم يكن الحديث حديثاً مفصلاً حتى يصعب على ابن عمر حفظه فلو سمع من رسول اللّه لنقله بلا نقيصة، فالرسول حدّث حديثاً واحداً سمعه كلّ من حضره من ابن عمر و أبي هريرة، ولكن نقل الثاني مع الزيادة دون الاَوّل وابن عمر يدّعي انّه ما خانته ذاكرته، بل زاد أبو هريرة من عنده. واللّه العالم.

۸. عدم وقوفه على أبسط المسائل

أخرج البخاري في صحيحه، عن سالم انّ عبد اللّه بن عمر ـ رضي اللّه عنهما ـ أخبره انّه طلق امرأته وهي حائض، فذكر عمر لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فتغيظ فيه رسول اللّه، ثمّ قال: ليراجعها، ثمّيمسكها حتى تطهر ثمّ تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها طاهراً قبل أن يمسها، فتلك العدّة.(۶۸)

أخرج أبو داود عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، انّه سمع عبد الرحمان بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع، قال: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً؟ قال: طلق عبد اللّه بن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأل عمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إنّ عبد اللّه بن عمر طلق امرأته وهي حائض، قال عبد اللّه: فردَّها عليَّ ولم يرها شيئاً، وقال: «إذا طهرت فليطلق أو ليمسك».

قال ابن عمر: وقرأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (يا أَيُّهَا النَبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساء فَطَلِّقُوهُنَّ) في قُبُلِ عدّتهنّ.(۶۹)

إنّ غضب رسول اللّه على فعل ابن عمر كما في الرواية الاَُولى وقراءته الآية كما في الرواية الثانية تعرب عن أنّ البيان والتشريع كان قد تم في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وانّه بلّغ ما يجب عليه إبلاغه وذلك بنزول سورة الطلاق التي جاء في مطلعها قوله: (يا أَيُّها النّبيّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) .

وهذا يدل على عدم وقوف عبد اللّه بن عمر على أبسط المسائل وأوضحها وأكثرها ابتلاءً في أوساط المسلمين، ولم يكن والده أيضاً أكثر اطلاعاً منه.

۹. نفي العدوى

أخرج ابن ماجة، عن يحيى بن أبي حية، عن أبيه، عن ابن عمر ، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا عدوى ولا طيرة ولا هامة، فقام إليه رجل أعرابي فقال: يا رسول اللّه : أرأيت البعير يكون به الجرب فيُجرب الاِبل كلّها، قال: ذلكم القدر، فمن أجرب الاَوّل؟!(۷۰)

وثمة تساوَلات:

۱. «العدوى» عبارة عن انتقال المرض من مريض إلى سليم وهذا أمر واضح لا يشوبه شكٌّ ومن سنن اللّه تبارك و تعالى خلق الجراثيم التي تنقل الاَمراض، ولا ينافي ذلك تقدير اللّه سبحانه فإنّ عمل الجراثيم من تقديره سبحانه، فلا منافاة بين العلل الطبيعية التي هي مظاهر سننه وتقاديره، والقول بالقضاء والقدر، لاَنّ تأثير الاَسباب الطبيعية بإذن اللّه سبحانه ، و تأثيره من تقديراته ، قال سبحانه: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرج بِهِ مِنَ الثَّمرات رِزقاً لَكُمْ)(البقرة/۲۲) أي أخرج بسبب الماء. إلى غير ذلك من الآيات الناصّة على تأثير الاَسباب الطبيعية بإذن اللّه. فلما نفى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ حسب ما جاء فيها ـ العدوى بنحو مطلق بدت على وجه الاعرابي علائم الاستغراب، و أدرك انّ ما سمعه من النبي يخالف الملموس في حياته فسأله وقال: أرأيت البعير يكون به الجرب فيُجرب الاِبل كلّها، فكيف تنفي العدوى وانتقال المرض من حيّ إلى آخر؟!

فما ورد في الرواية من الجواب لا يقنعه ولا يزيل استغرابه، فانّ الجواب فيها عبارة عن قوله:«ذلكم التقدير» أي انّ الانتقال بتقديره سبحانه لا بالعدوى مع انّه لا تنافي بين الاَمرين، وذلك لاَنّ انتقال المرض من مريض إلى صحيح، سنة من سنن اللّه سبحانه، سنّها وقدّرها كما قدّر سائر السنن الكونية، فلا مانع من أن يكون هناك تقدير وفي الوقت نفسه عدوى.

۲. انّ المجيب في الرواية لم يقتصر بقوله: «ذلكم التقدير» بل ضمّ إليه جواباً آخر وهو انّه لو صحّ «العدوى» فمن جرّب البعير الاَوّل إذ لم يكن هناك إلاّ بعير واحد ابتلي بالمرض حتى يكون هو السبب للجرب.

مع أنّ هذا الجواب لا يصلح للردّ أبداً إذ يمكن أن يكون للمرض عاملان أحدهما: «العدوى»، وثانيهما: «تأثير العوامل الطبيعية الا َُخرى».

۳. كيف تنفي الرواية العدوى مع أنّ سعد بن أبي وقاص نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال:

«وإذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تهبطوا، وإذا كان بأرض وأنتم بها فلا تفرّوا منه»(۷۱)

فانّ الحديث صريح في الاعتراف بسنّة العدوى في الطاعون، ولاَجل ذلك منع المُصحَّ أن يهبط على أرض كان فيها طاعون، كما منع من الخروج من الاَرض التي فيها الطاعون لئلا يبتلى الآخرون به. وقد مضى الكلام فيه أيضاً عند دراسة روايات أبي هريرة.

۱۰. النبي يأكل ممّا ذُبح على الاَنصاب

أخرج البخاري عن موسى بن عقبة، قال: أخبرني سالم انّه سمع عبد اللّه يحدِّث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) انّه لقي زيد بن عمرو بن نُفَيل بأسفل «بَلْدح» وذاك قبل أن ينزل على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي، فقدّم إليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها.

ثمّ قال: إنّي لا آكل ممّا تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلاّ ممّا ذكر اسم اللّه عليه.(۷۲)

إنّ هذه الرواية تحط من شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجهين:

الاَوّل: إنّ مفاد الحديث أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأكل مما ذبح على الاَنصاب، والشاهد على ذلك انّه قدّم إلى زيد بن عمرو سفرة ولا معنى لتقديمه إليه سفرة غيره بل الظاهر انّه قدّم إليه نفس السفرة التي كان يأكل منها وهذا طعن عظيم على سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) كما لا يخفى.

ويوَيد مضمون الرواية ما أخرجه أحمد، عن هشام بن سعيد، عن أبيه سعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل، قال: كان رسول اللّهبمكة، هو وزيد بن حارثة، فمرَّ بهما زيد بن عمرو بن نفيل، فدعوه إلى سفرة لهما. فقال: يا ابن أخي، إنّي لا آكل مما ذبح على النّصب، قال: فما روَي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك أكل شيئاً ممّا ذبح على النّصب. قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّأبي كان كما قد رأيت وبلغك، ولو أدركك لآمن بك و اتّبعك فأستغفر له؟ قال: نعم . فاستغفر له. فانّه يبعث يوم القيامة أُمّة واحدة.(۷۳)

الثاني: انّ الحديث يتضمن انّ زيد بن عمرو كان أعرف بالحنفية البيضاء من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أبى من أكله دونهص هذا ممّا لا يمكن احتماله في حقّه عليه الصلاة والسلام.

نعم أخرجه البخاري في كتاب المناقب بصورة أُخرى ربما تكون نزيهة عن الاِشكال، ولكن الرواية فاقدة للانسجام العام، وهي تشهد على أنّ الراوي تصرف في الرواية لدفع الطعن، وإليك نصها:

أخرج البخاري في صحيحه، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد اللّه، عن عبد اللّه بن عمر :

إنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقي زيد بن عمرو بن نُفيل بأسفل «بلدح» قبل أن ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي فقُّدمِتْ إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سفرة، فأبى أن يأكل منها. ثمّ قال زيد: إنّي لستُ آكل ممّا تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم اللّه عليه. انّ زيد ابن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها اللّه، وأنزل لها من السماء الماء ، وأنبت لها من الاَرض، ثمّ تذبحونها على غير اسم اللّه، إنكاراً لذلك وإعظاماً له.(۷۴)

أقول: إنّ الرواية لا تخلو عن تأملات :

أ. قوله :« فقُدِّمَتْ إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سفرة» بصيغة المجهول فمن المقدِّم لها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟فلماذا لم يذكر؟ وهذا دليل على أنّ الاَصل ما ورد في الصورة الاَُولى «فقدم إليه رسول اللّه سفرة» وإنّما حرّفه الراوي لدفع الاِشكال.

ب. انّ الضمير في قوله: «فأبى» يرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإذا أبى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأكل منها فالاَولى أن يقول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد إبائه: «إنّي لست آكل» ولكن الوارد في الصورة الثانية انّه بعدما أبى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، تكلم زيد بن عمرو، وقال:«إنّي لست آكل».

ج. لو افترضنا صحّة قول زيد بعد عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالصحيح عندئذٍ أن يقول زيد: أنا أيضاً لا آكل ممّا تذبحون، ليكون تصديقاً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حسب ظاهر الرواية.

د. الظاهر انّ الخطاب في كلام زيد«انّي لست آكل مما تذبحون» إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمفروض في الصورة الثانية انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعيب ذلك على قريش و يمتنع من أكله، فكيف يخاطبه زيد بن عمرو؟! و هذا يدل على أنّالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ حسب الرواية ـ كان يوافق قريشاً ذبحاً وأكلاً.

كلّ ذلك يعرب عن سقم الرواية وعدم نقلها على الوجه الصحيح، والمنقول صحيحاً هو ما رواه في باب الذبائح، و من المعلوم انّه يتضمن أشدّالطعن على أفضل الخليقة، فالحديث مكذوب.

ثمّ إنّ ابن حجر رجح الحديث الاَوّل على الثاني، فقال في شرح الحديث الثاني:

«فقدِّمتْ بضم القاف إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) » كذا للاَكثر، وفي رواية الجرجاني:فقدَّم إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سفرة (إشارة إلى النقل الاَوّل).

قال عياض: الصواب الاَوّل.

وقال ابن بطال: كانت السفرة لقريش قدموها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأبى أن يأكل منها، فقدّمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لزيد بن عمرو فأبى أن يأكل منها، وقال مخاطباً لقريش: الذين قدموها أوّلاً«إنّا لا نأكل ما ذبح على أنصابكم».

وما قاله محتمل لكن لا أدري من أين له الجزم بذلك؟ فأنّي لم أقف عليه في رواية أحد وقد تبعه ابن المنير في ذلك وفيه ما فيه.(۷۵)

***

ثم إنّ الحديثين المذكورين تحت رقم ۷ و ۸ وإن لم يكونا من أحاديثه السقيمة إلاّ أنّ الغاية من نقلهما إلفات نظر القارىَ إلى ما في مضمونهما من الحقائق.

۱. طبقات ابن سعد:۴/۱۴۲.

۲. سير أعلام النبلاء:۳/۲۳۷.

۳. المسند الجامع، الجزء العاشر ،وقد خصص هذا الجزء لرواياته.

۴. طبقات ابن سعد: ۴/۱۴۴.

۵. طبقات ابن سعد: ۴/۱۴۸.

۶. البدعة على ضوء الكتاب والسنة: ۲۶۴ـ ۲۹۶.

۷. سنن الترمذي: ۳/۱۸۶ برقم ۸۲۴.

۸. سير أعلام النبلاء:۳/۲۱۳.

۹. طبقات ابن سعد:۴/۱۵۶.

۱۰. سير أعلام النبلاء: ۳/۲۳۱؛ ورواه ابن سعد في طبقاته: ۴/۱۵۲.

۱۱. طبقات ابن سعد: ۴/۱۴۲ـ ۱۴۹.

۱۲. سير أعلام النبلاء: ۳/۲۲۹.

۱۳. صحيح البخاري: ۵/۲۷.

۱۴. سنن ابن ماجة:۱/۴۴ برقم ۱۱۸.

۱۵. تاريخ الطبري: ۳/۴۵۱.

۱۶. تاريخ الطبري:۳/۴۵۲.

۱۷. سنن الترمذي: ۵/۵ برقم ۲۶۰۹.

۱۸. صحيح البخاري: ۱/۱۰، باب «فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم» من كتاب الاِيمان.

۱۹. سنن ابن ماجة: ۲/۱۳۱۸ برقم ۳۹۸۳.

۲۰. سنن الترمذي: ۴/۳۵۵ برقم ۱۹۸۶.

۲۱. المسند الجامع: ۱۰/۱۷۷ برقم ۷۳۹۱.

۲۲. سنن ابن ماجة: ۱/۶۵۰ برقم ۲۰۱۸.

۲۳. سنن ابن ماجة: ۲/۲۷۴ برقم ۲۱۳۹.

۲۴. سنن ابن ماجة: ۲/۸۴۸ برقم ۲۵۴۷.

۲۵. صحيح البخاري: ۸/۱۰ ، باب الوصاة بالجار من كتاب البر والصلة.

۲۶. مسند أحمد: ۲/۶۸.

۲۷. صحيح مسلم: ۶/۸، باب فضيلة الاِمام العادل.

۲۸. مسند أحمد: ۲/۹۲.

۲۹. مسند أحمد:۲/۱۰۷.

۳۰. سنن ابن ماجة: ۱/۵۰۷ برقم ۱۵۹۱.

۳۱. السيرة الحلبية:۳/۳۱۰؛ سنن ابن ماجة:۱/۵۰۶ برقم ۱۵۸۹ ولاحظ بحار الاَنوار: ۲۲/۱۵۷ إلى غير ذلك من المصادر المتوفرة.

۳۲. مسند أحمد: ۲/۴۰؛ والاستيعاب بهامش الاِصابة: ۱/۲۷۵؛ إلى غير ذلك من المصادر.

۳۳. أنساب الاَشراف:۲/ ۴۳.

۳۴. الحاكم ، المستدرك: ۱/۳۸۱، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين؛ ولاحظ سنن النسائي: ۴/۱۹۰، إلى غير ذلك من المصادر .

۳۵. الحاكم، المستدرك:۱/۳۷۵.

۳۶. سنن ابن ماجة:۱/۹۵ برقم ۲۵۸؛ سنن الترمذي: ۵/۲۳ برقم ۲۶۵۵.

۳۷. صحيح البخاري: ۵/۴، باب فضل أبي بكر.

۳۸. مسند أحمد: ۲/۱۴.

۳۹. سنن أبي داود: ۴/۲۰۶ برقم ۴۶۲۸.

۴۰. سنن أبي داود:۴/۲۰۶ برقم ۴۶۲۷.

۴۱. كنز العمال: ۱۱/۶۰۵ برقم ۳۲۹۲۴ ـ ۳۲۹۲۵.

۴۲. أخرجه الخطيب في المتفق والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه :۶/۳۹۸.

۴۳. مسند أحمد:۵/۲۶.

۴۴. الاستيعاب: ۳/۴۰ هامش الاصابة، طبعة عام ۱۳۵۸هـ.

۴۵. حلية الاَولياء: ۱/۶۵.

۴۶. صحيح مسلم: ۷/۱۲۰، باب فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

۴۷. مسند أحمد: ۲/۲۶.

۴۸. صحيح مسلم: ۷/۱۲۰ـ۱۲۱ باب فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

۴۹. وقد أخرجه غير واحد من الحفاظ وأهل الحديث نذكر منهم مسند أحمد:۲/۱۶۳؛ مستدرك الحاكم: ۳/۳۴۴ صحّحه وأقره الذهبي ؛ سنن ابن ماجة: ۱/۵۵ برقم ۱۵۶؛ سنن الترمذي: ۵/۶۶۹ برقم ۳۸۰۱ـ ۳۸۰۲.

۵۰. ابن ماجة: السنن: ۱/۵۲ برقم ۱۴۶؛ الترمذي، السنن: ۵/۶۶۸ برقم ۳۷۹۸.

۵۱. ابن ماجة: السنن: ۱/۵۲ برقم ۱۴۷.

۵۲. ابن ماجة: السنن: ۱/۵۲ برقم ۱۴۸؛ الترمذي، السنن: ۵/۶۶۸ برقم ۳۷۹۹.

۵۳. ابن ماجة: السنن: ۱/۵۳ برقم ۱۴۹.

۵۴. الاستيعاب:۳/۵۲.

۵۵. المسند الجامع: ۱۰/۷۸۲ برقم ۸۲۱۹ نقله عن مسند عبد بن حميد.

۵۶. أُسد الغابة: ۳/۳۱۲.

۵۷. ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: ۲۰/۱۲.

۵۸. لاحظ سلسلة الاَحاديث الضعيفة والموضوعة: ۱/۷۸.

۵۹. المصدر نفسه.

۶۰. المصدر نفسه.

۶۱. سلسلة الاَحاديث الضعيفة و الموضوعة، وحديث البرد أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار، لاحظ ۲/۳۴۰، وهوحديث غريب يضاد القرآن والسنة وإجماع المسلمين، كما مرّ في مقدّمة الكتاب.

۶۲. الطحاوي، مشكل الآثار : ۲/۲۳۸ برقم ۱۹۸۳.

۶۳. سنن الترمذي: ۵/۶۲۲ برقم ۳۶۹۲.

۶۴. صحيح مسلم: ۵/۳۶ ، باب الاَمر بقتل الكلاب؛ سنن الترمذي: ۴/۷۹ برقم ۱۴۸۸.

۶۵. صحيح مسلم: ۵/۳۸، باب الاَمر بقتل الكلاب.

۶۶. المصدر نفسه.

۶۷. شرح النووي: ۱۰/۴۹۷.

۶۸. صحيح البخاري: ۶/۱۵۵، في تفسير سورة الطلاق.

۶۹. سنن أبي داود:۲/۲۵۶ برقم ۲۱۸۵ والآية ۱ من سورة الطلاق.

۷۰. سنن ابن ماجة: ۱/۳۴ برقم ۸۶.

۷۱. مسند أحمد: ۱/۱۷۴؛ سنن أبي داود برقم ۳۹۲۱.

۷۲. صحيح البخاري:۷/۹۱، باب ما ذبح على النصب و الاَصنام.

۷۳. مسند أحمد:۱/۱۸۹.

۷۴. صحيح البخاري:۵/۴۰، كتاب مناقب الاَنصار، الباب ۲۴.

۷۵. فتح الباري: ۷/۱۴۳، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل.