واعلم أنّ قول العالم: «لا أدري» لا يضع منزلته ، بل يزيدها رفعة ويزيده في قلوب الناس عظمة ، تفضّلًا من اللّه تعالى عليه ، وتعويضا له بالتزامه الحقّ ، وهو دليل واضح على عظمة محلّه وتقواه وكمال معرفته . ولا يقدح في المعرفة الجهل بمسائل معدودة.
وإنّما يستدلّ بقوله: «لا أدري» على تقواه ، وأنّه لا يجازف في فتواه ، وأنّ المسألة من مشكلات المسائل . وإنّما يمتنع مِن «لا أدري» من قلّ علمه وعدمت تقواه وديانته ؛ لأنّه يخاف لقصوره أن يسقط من أعين الناس ، وهذه جهالة اُخرى منه؛ فإنّه بإقدامه على الجواب فيما لا يعلم يبوء بالإثم العظيم ، ولا يصرفه عمّا عرف به من القصور ، بل يستدلّ به على قصوره ، ويظهر اللّه تعالى عليه ذلك بسبب جرأته على التقوّل في الدين ، تصديقا لما ورد في الحديث القدسيّ:
مَن أفسَدَ جَوّانيّه أفسَدَ اللّهُ بَرّانيّه .۱
ومن المعلوم أ نّه إذا رؤي المحققون يقولون في كثير من الأوقات: «لا أدري» ، وهذا المسكين لا يقولها أبدا ، يعلم أنّهم يتورّعون لدينهم وتقواهم، وأنّه يجازف لجهله وقلة دينه ، فيقع فيما فرّ منه ، واتّصف بما احترز عنه لفساد نيّته وسوء طويّته . وقد قال النبيُّ صلى الله عليه و آله :
المُتَشبّعُ بِما لَم يُعطَ كَلابسِ ثَوبَي زُورٍ .۲
وقد أدّب اللّه تعالى العلماء بقصّة موسى والخضر عليهماالسلامحين لم يردّ موسى عليه السلام العلم
1.في مشكاة الأنوار: ص ۵۵۴ ح ۱۸۷۰ «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ما من عبد إلّا وله جوّاني وبرّانيّ ، فمن أصلح جوّانيّه أصلح اللّه برّانيّه ، ومن أفسد جوّانيّه أفسد اللّه عليه برّانيّه...» .
2.صحيح البخاري : ج ۵ ص ۲۰۰۱ ح ۴۹۲۱ ، صحيح مسلم : ج ۳ ص ۱۶۸۱ ح ۱۲۷ ، سنن أبي داود : ج ۴ ص۳۰۰ ح ۴۹۹۷ كلّها عن أسماء ، كنزالعمّال : ج ۳ ص ۴۷۵ ح ۷۵۰۰ .