259
موسوعة العقائد الاسلاميّة ج6

مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ» 1 . ولِذلِكَ اختارَ مِنَ الاُمورِ ما أحَبَّ ونَهى عَمّا كَرِهَ ، فَمَن أطاعَهُ أثابَهُ ومَن عَصاهُ عاقَبَهُ ، ولَو فَوَّضَ اختِيارَ أمرِهِ إلى عِبادِهِ لَأَجازَ لِقُرَيشٍ اختِيارَ اُمَيَّةَ بنِ أبِي الصَّلتِ وأبي مَسعودٍ الثَّقَفِيِّ ، إذ كانا عِندَهُم أفضَلَ مِن مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله .
فَلَمّا أدَّبَ اللّهُ المُؤمِنينَ بِقَولِهِ : «وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» 2 ، فَلَم يُجِز لَهُمُ الاِختِيارَ بِأَهوائِهِم ولَم يَقبَل مِنهُم إلَا اتِّباعَ أمرِهِ وَاجتِنابَ نَهيِهِ عَلى يَدَي مَنِ اصطَفاهُ ، فَمَن أطاعَهُ رَشَدَ ومَن عَصاهُ ضَلَّ وغَوى ولَزِمَتهُ الحُجَّةُ بِما مَلَّكَهُ مِنَ الاِستِطاعَةِ لِاتِّباعِ أمرِهِ وَاجتِنابِ نَهيِهِ ، فَمِن أجلِ ذلِكَ حَرَمَهُ ثَوابَهُ وأنزَلَ بِهِ عِقابَهُ .
وهذَا القَولُ بَينَ القَولَينِ لَيسَ بِجَبرٍ ولا تَفويضٍ ، وبِذلِكَ أخبَرَ أميرُ المُؤمِنينَ ـ صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ ـ عَبايَةَ بنَ رِبعِيٍّ الأَسَدِيَّ حينَ سَأَلَهُ عَنِ الاِستِطاعَةِ الَّتي بِها يَقومُ ويَقعُدُ ويَفعَلُ فَقالَ لَهُ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : سَأَلتَ عَنِ الاِستِطاعَةِ تَملِكُها مِن دونِ اللّهِ أو مَعَ اللّهِ ، فَسَكَتَ عَبايَةُ ، فَقالَ لَهُ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام : قُل يا عَبايَةُ .
قالَ : وما أقولُ ؟ ...
قالَ عليه السلام : تَقولُ : إنَّكَ تَملِكُها بِاللّهِ الَّذي يَملِكُها مِن دونِكَ ، فَإِن يُمَلِّكها إيّاكَ كانَ ذلِكَ مِن عَطائِهِ ، وإن يَسلُبكَها كانَ ذلِكَ مِن بَلائِهِ ، هُوَ المالِكُ لِما مَلَّكَكَ وَالقادِرُ عَلى

1.الزخرف : ۳۲ .

2.الأحزاب : ۳۶ .


موسوعة العقائد الاسلاميّة ج6
258

فَمَن زَعَمَ أنَّ اللّهَ تَعالى فَوَّضَ أمرَهُ ونَهيَهُ إلى عِبادِهِ فَقَد أثبَتَ عَلَيهِ العَجزَ وأوجَبَ عَلَيهِ قَبولَ كُلِّ ما عَمِلوا مِن خَيرٍ وشَرٍّ وأبطَلَ أمرَ اللّهِ ونَهيَهُ ووَعدَهُ ووَعيدَهُ ، لِعِلَّةِ ما زَعَمَ أنَّ اللّهَ فَوَّضَها إلَيهِ ؛ لِأَنَّ المُفَوَّضَ إلَيهِ يَعمَلُ بِمَشيئَتِهِ ، فَإِن شاءَ الكُفرَ أوِ الإِيمانَ كانَ غَيرَ مَردودٍ عَلَيهِ ولا مَحظورٍ ، فَمَن دانَ بِالتَّفويضِ عَلى هذَا المَعنى فَقَد أبطَلَ جَميعَ ما ذَكَرنا مِن وَعدِهِ ووَعيدِهِ وأمرِهِ ونَهيِهِ وهُوَ مِن أهلِ هذِهِ الآيَةِ : «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـبِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَ لِكَ مِنكُمْ إِلَا خِزْىٌ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَ مَا اللَّهُ بِغَـفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» 1 ، تَعالَى اللّهُ عَمّا يَدينُ بِهِ أهلُ التَّفويضِ عُلُوّا كَبيرا .
لكِن نَقولُ : إنَّ اللّهَ ـ جَلَّ وعَزَّ ـ خَلَقَ الخَلقَ بِقُدرَتِهِ ومَلَّكَهُمُ استِطاعَةً تَعَبَّدَهُم بِها ، فَأَمَرَهُم ونَهاهُم بِما أرادَ فَقَبِلَ مِنهُمُ اتِّباعَ أمرِهِ ورَضِيَ بِذلِكَ لَهُم . ونَهاهُم عَن مَعصِيَتِهِ وذَمَّ مَن عَصاهُ وعاقَبَهُ عَلَيها وللّهِِ الخِيَرَةُ فِي الأَمرِ وَالنَّهيِ ، يَختارُ ما يُريدُ ويَأمُرُ بِهِ ويَنهى عَمّا يَكرَهُ ويُعاقِبُ عَلَيهِ بِالاِستِطاعَةِ الَّتي مَلَّكَها عِبادَهُ لِاتِّباعِ أمرِهِ وَاجتِنابِ مَعاصيهِ ؛ لِأَنَّهُ ظاهِرُ العَدلِ وَالنَّصَفَةِ وَالحِكمَةِ البالِغَةِ ، بالِغُ الحُجَّةَ بِالإِعذارِ وَالإِنذارِ ، وإلَيهِ الصَّفوَةُ يَصطَفي مِن عِبادِهِ مَن يَشاءُ لِتَبليغِ رِسالَتِهِ وَاحتِجاجِهِ عَلى عِبادِهِ ، اصطَفى مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله وبَعَثَهُ بِرِسالاتِهِ إلى خَلقِهِ ، فَقالَ مَن قالَ مِن كُفّارِ قَومِهِ حَسَدا وَاستِكبارا : «لَوْلَا نُزِّلَ هَـذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» 2 ، يَعني بِذلِكَ اُمَيَّةَ بنَ أبِي الصَّلتِ وأبا مَسعودٍ الثَّقَفِيَّ ، فَأَبطَلَ اللّهُ اختِيارَهُم ولَم يُجِز لَهُم آراءَهُم ، حَيثُ يَقولُ : «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم

1.البقرة : ۸۵ .

2.الزخرف : ۳۱ .

  • نام منبع :
    موسوعة العقائد الاسلاميّة ج6
    المساعدون :
    برنجکار، رضا
    المجلدات :
    6
    الناشر :
    دار الحديث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق / 1387 ش
    الطبعة :
    الثالثة
عدد المشاهدين : 149271
الصفحه من 530
طباعه  ارسل الي