271
موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج6

ملاحظة

ذكرنا فيما سبق أنّ من غير المستبعد أن تكون مراسم العزاء الاُولى وحتّى ثورة المختار وانتقامه من قتلة سيّد الشهداء ، كانت متأثّرة بالثقافة الاجتماعيّة العربيّة ، مع تشذيب وتهذيب تلك الثقافة والأدب. ونضيف هنا قائلين إنّ هذا الموقف لو كان متجانساً بنسبة ضئيلة مع تلك الثقافة، لكانت أبعاده مختلفة إلى حدّ كبير حتّى من الناحية الزمنيّة .
يقول الإمام الصادق عليه السلام :
مَا اختَضَبَت مِنّا امرَأَةٌ ولَا ادَّهَنَت ولَا اكتَحَلَت ولا رَجَّلَت حَتّى أتانا رَأسُ عُبَيدِ اللّه ِ بنِ زِيادٍ ، وما زِلنا في عَبرَةٍ بَعدَهُ . ۱
ففي الثقافة العربيّة كان الانتقام من القاتل يمثّل نهاية مراسم العزاء عندهم ، بخلافه في حادثة عاشوراء حيث لم ينته العزاء على سيّد الشهداء وأصحابه الميامين بالانتقام من قتلتهم؛ وذلك أنّ شهادة الإمام الحسين عليه السلام تتمتّع وفق هذه النظرة بخصوصيّة مهمّة ، وهي امتزاجها بأبعاد الدين واستهداف إحياء الثقافة الدينيّة ، ولذلك فقد كانوا يعتبرون إحياء ذكر هذه الحادثة واجباً على الدوام. ويمكن أن ندرك هذه الحقيقة من سيرة الأئمّة عليهم السلام بالإضافة إلى هذه الرواية فقد سعى الأئمّة عليهم السلام ـ وكما سبق بيانه ـ من أجل ترسيخ اُسس مراسم العزاء على سيّد الشهداء ، ووضعوها في معرض الأجيال باعتبارها شعائر عظيمة .

المرحلة الثالثة (مراسم العزاء إلى ما قبل اكتسابها الطابع الرسمي في أواسط القرن الرابع الهجري)

تولّى الإمام الجواد عليه السلام الإمامة في طفولته (عام 203 ه) ، وقد انتهى جهاز الحكم العبّاسي الظالم من خلال تجربته مع خلفيّات مواقف الأئمّة عليهم السلام وماضيهم ، إلى أن يواصل مراقبة الأئمّة عليهم السلام ، وكان قد صعّد هذه المراقبة من خلال دعوة الإمام الرضا عليه السلام إلى مرو . وها هو الآن يكرّس كلّ جهوده من أجل أن يفصم عرى الأواصر الفكريّة والإرشاديّة للشيعة عن مركز السعي والنشاط والحركة ؛ أي الإمام عليه السلام .
وفي قبال ذلك فقد اهتمّ الأئمّة عليهم السلام بنظام الوكالة الذي تمّ تأسيسه في عهد الإمام الباقر والإمام الصادق عليهماالسلام، فوسّعوا نطاقها، بحيث كانوا ينقلون إلى الشيعة ما يرونه واجباً وأساسيّاً في الهداية. وكان الشيعة أيضاً قد عملوا على تنظيم صفوفهم استناداً إلى هذه التعاليم ، وكانوا يرسّخون علاقتهم مع العلماء والمفكّرين الذين كانوا قد تخرّجوا من مدرسة الأئمّة عليهم السلام ويواصلون حياتهم الدينيّة . وهكذا، فقد كان ارتباط الشيعة في الغالب مع العلماء ؛ نظراً إلى أوضاع المجتمع من جهة .
ومن جهة اُخرى فإنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا تحت المراقبة الشديدة والحصار، ولهذا فإنّ ارتباطهم بالشيعة كان ضعيفا ، وعلى هذا فمن الواضح أنّ التاريخ سوف لا يستعرض من أقوالهم وسيرتهم حول «إقامة العزاء في عاشوراء»، وخاصّة في عهد المتوكّل ، حيث بلغ الاختناق العامّ ذروته وخاصّة فيما يتعلّق بالذهاب إلى كربلاء وزيارة المرقد الطاهر لسيّد الشهداء عليه السلام .
ومع كلّ ذلك، ونظراً إلى التربية التي كان الشيعة قد تلقّوها في هذا المجال على يد الأئمّة عليهم السلام ، فقد أبرزوا اهتماما بالعزاء على أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام بشكلٍ جدّي ومارسوه في بيوتهم وأوساطهم، كما كان يقام في عهد الإمامين الباقر والصادق عليهماالسلام ، إلّا أنّ تكتّم الشيعة من جهة، والتعتيم الإعلامي للحكومة من جهة اُخرى، حالا دون انعكاس هذه المراسم في المصادر التاريخيّة .
وهكذا وكما سبقت الإشارة ، فإنّ التضييق على الشيعة ، والمشاكل والعراقيل التي وضعت أمامهم في زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام وإقامة العزاء عليه في عصر المتوكّل ، كلّ ذلك كان قد بلغ ذروته. لكن لمّا تولّى المنتصر العباسي زمام الحكم (عام 248 ه . ق) ، طلب من الشيعة أن يواصلوا زيارة كربلاء كالسابق ۲ ، وأمر من جهةٍ اُخرى بإعادة بناء مرقد الإمام عليه السلام ، ۳ ومنع في النهاية اضطهاد الشيعة وإلحاق الأذى بهم . ۴
وبعد ذلك يبدو أنّ هناك اضطهاداً وضغوطاً ما كانت تمارس ضدّ الشيعة بعض الحدود (مثل: عهد سيطرة الحنابلة على بغداد قبل تولّي البويهيّين لزمام الحكم) ۵ ؛ وأمّا بقية الخلفاء العباسيّين فلم يكونوا مثل المتوكّل أبداً ، فلم يسبّبوا مضايقات كثيرة لزوّار مرقد الإمام الحسين عليه السلام ، حيث كان الشيعة يتوجّهون لزيارة كربلاء في يوم عاشوراء وعرفة والنصف من شعبان ويقيمون العزاء عند قبر الإمام عليه السلام ، حتّى صار قبر الإمام عليه السلام شيئاً فشيئاً مكاناً دائميّاً لإقامة العزاء .
وفي عهد الغيبة الصغرى أيضاً وصلتنا وثائق تاريخيّة تدلّ على إقامة العزاء والرثاء عند قبر الإمام عليه السلام . ومن جملة ذلك رواية ابن الأثير بشأن الحوادث الأخيرة لحدود العام 296 ه . ق ، حيث تدلّ على حضور الشيعة عند مرقد الإمام عليه السلام وما حدث لأحد اليمنيّين الشيعة خلال تلك الحوادث . ۶ كما ذكر القاضي أبو عليّ التنوخي (ت 384 ه . ق) أنّ ابن الأصدق كان منشغلاً بالنوح على الإمام عليه السلام أيّام تسلّط الحنابلة على بغداد ، وكان الراوي يسعى للتعرّف عليه والالتقاء به من أجل التوصية بالرثاء، فرآه في ليلة النصف من شعبان حيث كان الشيعة متواجدين عند قبر سيّد الشهداء مقتحمين جميع المخاطر ، وهو يمضي ليله في تلك الأجواء بالنياحة فيما كان الناس يبكون معه . ۷
وفي أواخر عهد الغيبة الصغرى أصدر البربهاري ۸ إمام الحنابلة في بغداد (ت 329 ه . ق) ، الأمر بقتل «خلب» التي كانت تنشد المراثي على الإمام الحسين عليه السلام سرّاً في بيوت الشيعة . ۹
وتحدّث ابن حجر أيضاً في لسان الميزان عن شاعر شيعيّ رثى الإمام عليه السلام عام 346 ه . ق حتّى ظهر يوم عاشوراء ، وبكى الناس معه . ۱۰
ويبدو أنّ هذه الروايات قليلة، ولكنّنا يمكن أن نستنتج آخذين بنظر الاعتبار التعتيم الإعلامي للنظام الحاكم، أنّ كلّ ذلك يدلّ على إقامة الشيعة مراسم العزاء والبكاء والنياحة، حيث كانوا يسعون قدر إمكانهم من أجل أن لا يطوي النسيان حادثة عاشوراء .
وفي مصر أيضاً كان الناس في عهد حكومتي الإخشيد وكافور غير الشيعيتين (323 ـ 358 ه . ق)، يتجمّعون عند قبري السيّدتين اُمّ كلثوم ونفيسة ، ويقيمون العزاء، حتّى أنّ حكومة كافور كانت قد بثّت الشرطة في الصحراء لمنع إقامته . ۱۱
ويبدو أنّ هذه الروايات القليلة تيسّر للمؤرّخين روايتها بعد عهد اكتساب مراسم العزاء الطابع الرسمي في بغداد ومصر؛ ذلك لأنّ الدول الشيعيّة كانت قد اُقيمت ، والمؤسّسات الرسميّة قد اُوجدت ، فاضطرّ المؤرّخون إلى أن يرووا ماكان يحدث، ومن جملتها مراسم العزاء والحداد وغيرها .

1.راجع : ص ۱۷۲ ح ۲۷۳۱ .

2.الكامل في التاريخ : ج ۴ ص ۳۵۵.

3.المناقب لابن شهر آشوب : ج ۲ ص ۲۱۱.

4.مروج الذهب : ج ۴ ص ۱۳۵.

5.بلغت النظرة الضيّقة لهذه الفئة حدّاً بحيث إنّ الخليفة العبّاسي نفسه هبّ لمواجهتهم في معرض إرساله كتاباً في هذا المجال، يقول ابن الأثير في هذا الشأن : وفيها [سنة ۳۲۳ هـ . ق] عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم... فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبّخهم... ثمّ طعنكم على خيار الأئمّة ونسبتكم شيعة آل محمّد صلى الله عليه و آله إلى الكفر والضلال ، ثمّ استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن ، وإنكاركم زيارة قبور الأئمّة وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع ، وأنتم مع ذلك تجتمعون على زيارة قبر رجل من العوام ليس بذي شرف و لا نسب ولا سبب برسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وتأمرون بزيارته وتدعون له معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ، فلعن اللّه شيطاناً زيّن لكم هذه المنكرات وما أغواه ، وأمير المؤمنين يقسم باللّه قسماً جهداً إليه يلزم الوفاء به لئن لم تنتهوا عن مذموم مذهبكم ومعوّج طريقتكم ليوسعنّكم ضرباً وتشريداً وقتلاً وتبديداً ، وليستعملنّ السيف في رقابكم والنار في منازلكم ومحالكم (الكامل في التاريخ : ج ۵ ص ۱۷۵) .

6.الكامل في التاريخ : ج ۵ ص ۱۴.

7.نشوار المحاضرة : ج ۲ ص ۲۳۰، بغية الطلب في تاريخ حلب : ج ۶ ص ۲۶۵۴ نقلاً عن التنوخي .

8.الحسن بن عليّ بن خلف البربهاري، كان رئيس الحنابلة، وكان يحثّهم على الإتيان بأنواع الضغوط، فأخذوا يغيرون على البيوت ليلاً ويعتدون على الناس في بيعهم وشرائهم، ويغتالون كلّ من لا يرى رأيهم، حتّى إنّ الإمام الطبري صاحب التفسير والتاريخ، ظلّ حبيس داره مدّة، ولمّا توفّي حالوا دون تشييعه ودفنه، وزاد شرّهم وفتنهم، واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون إلى المساجد، فإذا مرّ بهم شافعي المذهب، أغروا به العميان فضربوه بعصيهم حتّى يكاد يموت، الأمر الذي اضطرّ الخليفة العبّاسي الراضي أن يصدر بشأنهم قرارا، قال فيه: «إنّ من نافق بإظهار الدين، وتوثّب على المسلمين، وأكل به أموال المعاهدين، كان قريباً من سخط ربّ العالمين، وغضب اللّه ، وهو من الضالّين». مات البربهاري سنة ۳۲۹ وهو ابن ۹۶ سنة ( راجع: تجارب الاُمم: ج ۵ ص:۴۱۴، الكامل في التاريخ : ج ۵ ص ۲۲۳).

9.قال أبي وابن عيّاش: كانت ببغداد نائحة مجيدة حاذقة تُعرف ب «خلب»، تنوح بهذه القصيدة [يعني القصيدة المذكورة في القصّة السابقة]، فسمعناها في دور بعض الرؤساء؛ لأنّ الناس إذ ذاك كانوا لا يتمكّنون من النياحة إلّا بعزّ سلطان، أو سرّاً؛ لأجل الحنابلة. ولم يكن النوح إلّا مراثي الحسين وأهل البيت عليهم السلام فقط، من غير تعريض بالسلف. قالا: فبلغنا أنّ البربهاري قال: بلغني أنّ نائحة يقال لها خلب، تنوح، اطلبوها فاقتلوها (نشوار المحاضرة : ج ۲ ص ۲۳۳.)

10.لسان الميزان: ج ۴ ص ۲۳۸- ۲۴۰.

11.قال ابن زولاق في كتاب سيرة المعزّ لدين اللّه : في يوم عاشوراء من سنة ثلاث وستّين وثلاثمئة [۳۶۳ ]انصرف خلق من الشيعة وأشياعهم إلى المشهدين قبر كلثوم ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين عليه السلام ... وقد كانت مصر لا تخلو منهم في أيّام الإخشيدية والكافورية ـ (وكافور من موالي محمّد الإخشيد، كان قد اشتراه وأعتقه، ثمّ جعله وزيرا ، ثمّ تولّى حكومة مصر وسوريا بالتدريج) ـ [سنة ۳۲۳ إلى ۳۵۸ ]في يوم عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر نفيسة ، وكان السودان وكافور يتعصّبون على الشيعة وتتعلّق السودان في الطرقات بالناس ويقولون للرجل من خالك؟ فإن قال معاوية أكرموه ، وإن سكت لقي المكروه واُخذت ثيابه وما معه ، حتّى كان كافور قد وكّل بالصحراء ومنع الناس من الخروج (الخطط المقريزية: ج ۲ ص ۲۸۹) .


موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج6
270
  • نام منبع :
    موسوعة الامام الحسين عليه السّلام في الکتاب و السّنّة و التّاريخ ج6
    سایر پدیدآورندگان :
    المساعدون : الطباطبائي نژاد،سيد محمود؛ السيّد طبائي،سيد روح الله
    تاریخ انتشار :
    1390
عدد المشاهدين : 235208
الصفحه من 430
طباعه  ارسل الي