قراء ة في كتاب
الشيخ عبدالجبار الرفاعي
أثر الإجازات في الوحدة الثقافية
ازدهرت الحركة العلمية لدى المسلمين منذ بزوغ الأمّة المسلمة وامتدادها على رقعة جغرافية واسعة بلغت في أيام مجدها تخوم أوروبا إلى الصين ، ولبث المسلمون عدّة قرون يستأثرون بمعظم العلوم المتداولة في هذه القرون ، يتدارسونها ، ويعلمونها ، ويتعمقون في بحثها وتطويرها ، ويعملون على استيعابها وتدوينها في مصنفات متنوعة . ولم يقتصروا على ذلك وإنّما كان لهم نصيب هام في إبداع جملة علوم جديدة لم يسبقهم إليها أحد من الأمم الأخرى ، مضافاً إلى انتهاج أساليب مبتكرة في البحث العلمي ، وترسيخ تقاليد علمية دقيقة ظلت تفتقر إليها مناهج البحث حتى جاء المسلمون . فمثلاً لا نلتقي بما أسماه المسلمون «علم الكلام» في تراث الأمم الأخرى ، وهكذا الحال في «أصول الفقه» وغيرهما ، وتتجلى هذه الحقيقة بوضوح في «علوم الحديث» بأسرها ، فبينما تعرض تراث النبوات الماضية للإهمال والضياع ، وطُمست معالم الكتب السماوية المقدّسة ، ولم تتبلور تجربة تدوين التراث النبوي إلّا بعد مرور قرون على تعاطي ذلك التراث شفوياً وتحوله
إلى حكايات وقصص متهافتة ، تموج بها حياة العامة ، وتمتزج بالفلكلور في الوجدان الشعبي ، نجد المسلمين اتخذوا من «الحديث الشريف» موقفاً مختلفاً مغايراً لما شاع في تاريخ النبوات السالفة ، فبدأوا بتدوين الحديث باكراً ، وعملوا على تأصيل تقاليد أخرى في نقله وحفظه عبر الأجيال . صحيح إن عملية التدوين هذه اكتنفتها ظروف وملابسات صعبة في الفترة الأولى كادت أن تُضحي بالسنة الشريفة ، غير ان الجهود العظيمة التي بذلها أئمة أهل البيت عليهم السّلام وطائفة من الصحابة تغلبت على تلك الملابسات وأرست أصول منهج متقن في تدوين السنة ونقلها من طبقة إلى طبقة أخرى عبر التاريخ ، ووضعت ضوابط ومعايير واضحة للتعامل مع مروياتها،واكتشاف الموضوعات منها، وتمييزها عن المرويات الصحيحة.
ويمكن القول: إنّهُ لم تستأثر علوم باهتمام المسلمين بعد علوم القرآن والتفسير كعلوم الحديث ، فقد انخرط في كل عصر عدد من الرواة وطلاب العلم في رواية الحديث وتدوينه ودراسة طرقه ومتونه ، بل إن طلاب العلم عامة ما خلا حالات خاصة محدودة كانوا يولون رواية الحديث ودراسته والتصنيف في علومه أهمية فائقة ، فحتى الذين نبغوا منهم في علوم اللغة العربية وآدابها أو التاريخ والسيرة أو غير ذلك غالباً ما تشتمل قوائم مؤلفاتهم على أكثر من أثر في الحديث وعلومه . وأضحى التأليف في هذا الحقل علامة على تقدم طالب العلم وعلو مقامه وشرفه ، فتسابق المصنفون في هذا المضمار ، وحرصوا على مشافهة الشيوخ وسماعهم ، وتنقلوا بغية الوصول إلى مواطنهم بين البلدان ، وأضحت «الرحلة في طلب العلم» من الظواهر الشائعة في الحياة العلمية الإسلامية آنذاك ، بحيث أُطلق على البعض لقب الرحّال بعد ان صارت الرحلة في طلب العلم بمثابة الحرفة له . فمثلاً سُمي أحمد ابن عَلّوَيْه الأصفهاني (الرحّال، لأنه رحل خمسين رحلةً) ۱ ، وكان محمّد بن عبدالله بن البهلول قد (سافر في طلب الحديث عمره) ۲ .
وتجول الكثيرون من بلد إلى بلد بحثاً عن شيوخ الرواية حتى (ادعى بعض الطلبة أنهُ سمع أحاديث في مائة وعشرين موضعاً ، كان من بينها ، فضلاً عن المراكز الإسلامية الكبرى ، مدن: آمد وبوشنج وتنيس) ۳ وكان أصحاب الأئمة عليهم السّلام يفدون إلى المدينة من مختلف الأمصار لسماع الحديث منهم ۴ ، وهكذا كان يفعل غيرهم من المسلمين أتباع المذاهب الأخرى ، فقد ذكر السبكي في ترجمته للربيع ابن سليمان المرادي المتوفى سنة 270هـ (وكانت الرحلة في كتب الشافعي إليه من الآفاق نحو مائتي رجل) ۵ .
1.أحمد بن علي النجاشي ، رجال النجاشي ، تحقيق : السيّد موسى الشبيري الزنجاني . قم : جماعة المدرسين في الحوزة ۱۴۰۷هـ ، ص۸۸ .
2.المصدر السابق ، ص۳۹۶ .
3.د . عبدالله الفياض . الاجازات العلمية عند المسلمين ، بغداد : مطبعة الإرشاد ، ۱۹۶۷م ، ص۱۰۸ .
4.الكشي . الرجال . كربلاء : ۱۳۸۳هـ ، ص۲۴۹ .
5.السبكي . طبقات الشافعية . القاهرة ، ۱/۲۶۰ .