رسالة في المحقّق الخوانساري - صفحه 543

[ديباجة كتاب «مشارق الشموس»]

وبعد هذا ، أقول : إنّ ما رأيت من نسخة المشارق كان خاليا عن الديباجة ، والظاهر أنّ الحال في الغالب على هذا المنوال ، لكن رأيت في ظهر كتابٍ ديباجةً جيّدةً ـ كحال الجودة ـ للمشارق ، قال :
الحمد للّه مفيض النعم الودائع وملهم الحكم والشرائع ، الواهب من أصول النعم وفروعها ما يعجز العقول عن نيل غايته ، ويقف جمل العقود دون إدراك نهايته ، منّ على عباده بالهداية إلى معالم الدين ، وأخرجهم من ظلمات الجهالة إلى نور اليقين ، أنعم عليهم بإرشاد أذهانهم إلى قواعد الأحكام ، وأضاء بلمعة من لطفه مسالك أفهامهم كي يهتدوا إلى شرائع الإمام ، نوّر بمصابيح الدراية قلوبهم لينقذهم من حيرة الجهالة ، وشرح بأنوار الهداية صدورهم خلاصا لهم من حومة الضلالة ، أنزل الكتاب فيه تبيان كلّ شيء ، وتميّز الرشد من الغي ، تفضّل بإرسال
الرسل وايضاح السبل كي لا يضلّ بهم الطرق عن مدارك معرفته ، وبيّن الآيات ونصب البيّنات حتّى لا يعذر أحد في ترك طاعته ، لم يعتور أمره التباس ولم يغيّر حكمه قياس ، نحمده حمدا يليق بكبريائه ، ونشكره شكرا يستوجب المزيد بعد المزيد من آلائه ، ونقرّ بتوحيده إقرارا ينفعنا يوم لقائه.
ونشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، ونشهد أنّ محمّدا رسول اللّه ، الأمّي الذي أتى بكتاب عجز عن نيل مبانيه مصاقع الفصحاء ، وحار دون إدراك معانيه ۱ أعلام العلماء ، التهاميّ الذي شرف بكلّ عودٍ ونجدٍ ، المكيّ الذي فاض على الآفاق كلّ فضل ومجد ، الآخر الذي مدّ الأوّلون عين الرجاء إلى شفاعته،الخاتم الذي لم يخرج من حلقة الذلّ من لم ينتحل بعض طاعته، أرسله رحمة للعالمين وهداية للخلق أجمعين ، مؤسّسا للملّة السمحاء ، وموردا إلى الشريعه البيضاء،فقام بأعباء الرساله حتّى تجدّد ذكر المعارف الوحيديّة غبّ طموسها ، وانكشف بيان السرائر الالهيّة بعد دروسها.
وكان إتمام الدين وإكمال النعمة أن نصب للخلق باب مدينة العلم هاديا إلى ثواب الأعمال وعقابها ، وكاشفا عن الأمّة غياهب ارتيابها ، وآله الهداة المرضيّين أئمّةً للعباد ، وحفظةً للأحكام إلى يوم التناد.
أللّهمّ فصلّ عليه وآله البررة الأخيار ، الذين من أجمع على متابعتهم واستصحب هدى طريقتهم فاز بالبراءة من النار ـ كما بلغوا آياتك وجلوا عن سنن بيّناتك ـ صلاةً باقيةً ، ما استخرج التفاصيل من الجمل ، واتّضخ بالمبيّن الجمل .
أمّا بعد ، فيقول الراجي إلى رحمة ربّه البارئ ، حسين بن جمال الدين محمّد الخوانساري ـ أوتيا كتابهما يمينا وحوسبا حسابا يسيرا ـ : إنّ
العلوم على شرف جلّتها و رفعة مكانتها وحلّتها متفاضلة في مدى الفخار ، متفاوتة في المزايا والآثار ، وأشرفها درايةً و روايةً ، وأفضلها معلوما وغايةً ، وأسدّها دليلاً وحجّةً ، وأوضحها منارا ومحجةً ، وأعظمها للراغب منفعةً ، وأورثها للطالب رفعةً بعد علم المعرفة علم الفقه ، الذي به يُعرَف ما كلّف به العباد ، ويفرّق بين الغيّ والرشاد ، ويميّز بين ما ينجي ويوثق يوم التناد ، ومنه يشرح آيات كلام ربّ العالمين ، ويوضح سنن خير المرسلين ، وآثار عترته الطاهرين ، وبه تنال السعادة الأبديّة ، ويدرك الفوز بالحياة السرمديّة ، فمن تمسّك بالفقه الأحمدي فله البشرى ، وهو الفاخر بنيل منتهى المطلب في الآخرة والأولى ، والفقيه الذي فاز باستبصار كافٍ في تهذيب عمله ، والمهذّب الجامع لخصالٍ أدرك بها غاية مراده وأمله .
ولمّا كان كتاب الدروس الشرعية في الفقه الإماميّة ـ من تصانيف شيخنا الأجل المحقّق والحبر المسدّد المدقّق ، أفضل المتأخّرين وأكمل المتبحّرين ، عمدة علماء الفرقة الناجية ، بل الذي لم يظفر بمثله في القرون الماضية ، الحائز لمرتبة السعادة ، الفائز بمنقبة الشهادة ، محمّد بن مكّي ـ أعلى اللّه درجته كما شرف خاتمته ـ أحسنَ الكتب المصنّفة تحقيقا وتهذيبا ، وأتقن الرسائل المؤلّفة تدقيقا وتقريبا ، وأكثرها اشتمالاً على الفروع التي تعمّ بها البلوى ، وأسدّها تنقيحا للمسائل التي تشتدّ الحاجة إليها ، أحببنا أن نشرحه شرحا ، يوضح مقاصده الدقيقة ، ويجلى مطالبه الأنيقة ، ويبيّن حقائق أنظاره ، ويظهر دقائق أفكاره ، غير مقتصرين على حلّ الكتاب وبيان مبانيه ، ولا مكتفين بكشف الحجاب عن عرائس معانيه ، بل أوضحنا في كلّ مسألة مقاصد من تكلّم فيها ، وأشبعنا القول فيما يصحّ أن يقال لها أو عليها ، وأوردنا من الأدلّة ما أمكن بلوغ الفهم إليها ، وأطلنا النظر في متن كلّ دليلٍ وسنده ، وأجلنا الفكر في
ردّ كلّ مذهب ونقده ، وأعلنّا سرّ الأقوال في الإبرام والنقض ، وأمعنّا القول في ترجيح بعضها على بعض ، وسمّيناه مشارق الشموس في شرح الدروس وجعلناها تحفة للخزائن العامرة ، التي هي بذخائر العزّ عامرة ، أعني خزانة السلطان الأعظم والخاقان الأفخم ، مالك رقاب الأُمم ، ناشر لواء المعدلة في البسيطة الغبراء ، رافع أعلام المجد إلى القبّة الخضراء ، مالك ملاّك السلطنة العظمى والدولة الكبرى ، رافع مهالك البغي والفساد ، عارف مسالك الهدى والرشاد ، أسنى الملوك حسبا ونسبا ، وأعلاهم موروثا ومكتسبا ، وأعظمهم شأنا وسلطانا ، وأشدّهم إيقانا وإيمانا ، وأسدّهم قولاً وبيانا ، خضع للربّ فتعاظم في الورى سلطانه ، واستخفّ ميزان الدنيا كي يثقل في الحشر ميزانه ، النّسر الطائر واقع دون قبّته ، والسماك الرامح أعزل لدى شوكته ، عتبته العلّية شماء بارع قدرها ، وحضرته السنيّة سماء بازغ بدرها ، من وضع له جبهة العبوديّة لم يرض بالأكليل تاجا ، ومن استضاء بصبح عزّته آنف من القمر سراجا ، قبّة مجده بادئة لكلّ حاضر وبادٍ ، وعين عدله صافية يردها كلّ ريّ وصادٍ ، يَطلع صبح العزّة من عزّته ، ويَطّلع على سرّ العظمة من أسرته ، لطفه ۲
العميم دليل يدرك به أصناف الخلق مطلبهم ، وكفّه الكريم بحرٌ يعرف منه كلّ أناسٍ مشربهم ، لو كان قيصر الروم يروم العزّ لم يقصر في متابعته ، ولو أنّ الملك الهند أصاب الرأي لرأى السعادة في إطاعته ، زهر الشجرة المصطفوية ، غصن الدوحة المرتضوية ، سراج الدولة الصفوية ، ماحي آثار الجور والعناد ، حامي أرجاء البلاد والعباد ، ومروّج أحكام الشريعة الحقّة في الخافقين ، ناشر آثار الفرقة المحقّة في المشرقين والمغربين :
مولى ملوك الورى من لا يقاس به عزّا ومجدا وإحسانا وتمكينا
ذو العرش أعطاه سلطانا ومَكَّنه
كي يظهر العدل في الآفاق والدينا

جنوده لا يهابون العدوّ وهل
يخاف حزب السليمان الشياطينا

أنّى يؤثّر جحد الناس قدركم
حاميم حامٍ لكم يا آل ياسينا

دعوت تبقى بقاء الدهر دولته
وقول كل الورى قد كان آمينا

وبعد هذا أقول : إنّه قال في اللؤلؤة :
ومن طرقي ما أخبرني به إجازةٌ الفاضل الآخوند ملاّ محمّد بن فرّخ المعروف بملاّ رفيعا ، المجاور حيّا وميّتا بالمشهد الرضوي ـ على مشرّفه السلام ـ ، عن شيخه محمّد باقر المجلسي ؛ وهذا الطريق أقرب طرقي لقلّة الوسائط فيها . وأصله من جيلان ، واستوطن المشهد الرضوي ومات به حيلولة ، وعنه ـ قدس سرّه ـ عن العلاّمة آقا جمال الدين محمّد، ابن المحقّق المدقّق آقا حسين بن جمال الدين محمّد الخوانساري ، عن المولى محمّد تقي المجلسي . وكان آقا حسين المذكور محقّقا ، مدقّقا كما يشهد به شرحه على الدروس إلاّ أنّه لم يبرز منه إلاّ القليل .
وكانت إجازتي منه بالمراسلة ؛ ثمّ إنّى لمّا تشرفت بزيارة المشهد المذكور تشرّفت بخدمته والوصول إليه ، وكان يدرس في المدرسة التي في تلك البلدة تفسير البيضاوي ، وفي المسجد الجامع بعد صلاة الظهر جامع الجوامع مع علوّ في السنّ بما يقارب المأة سنة .
والظاهر أنّه كان يُرجع فيما يأتيه من الاستفتاء إلى السيّد حيدر العاملي ، أحد التلامذة الذين عنده يكتب الأجوبة عنه ، ومن جملتها مسائل قد أرسلتها إليه مشتملة على إشكالات ، وطلبت تنقيح الجواب فيها ، فجاء الجواب مكتوبا على حواشي المسائل المذكورة ملخّصا مختصرا ،
وأخبرني بعض الإخوان أنّه كان كتابة السيّد حيدر المذكور. ۳
وقد يتراءى بادئ الرأي ـ كما اتّفق لبعض ـ أنّ قوله : «وكانت إجازتي منه بالمراسلة» (إلى آخر ما ذكرها) ، متعلّق بما قبله ، أى من الكلام في ترجمة آقا حسين ، نظير ما ذكره في الأوّل من قوله : «ونروي عنه إجازته» .
وهذا توهّم فاسد؛ لأنّ القول المشار إليه متعلّق بالكلام في ملاّ [محمّد بن] فرّخ المذكور في صدر العنوان ، كيف وصاحب الأمل روى عن العلاّمة المجلسي بتوسط ملاّ محمّد بن فرّخ ؟ فلا يتأتّى رواية عن العلاّمة الخوانساري ، مع أنّه مقدّم قليلاً على العلاّمة المجلسي .
مضافا إلى أنّ ظاهر العبارة يقضى برجوع قوله : «وكانت إجازتي منه بالمراسلة» [إلى ملاّ محمّد بن فرّخ] ؛ إذ ظاهره التعاهد ، والمتعاهَد إجازة ملاّ محمّد ، ولولا التعاهد لقال : «نروي عنه إجازة» كما مرّ في عبارة الأمل ، ولو كان هذه العلاّمة الخوانساري أجاز صاحب الأمل فكيف يتأتّى لصاحب اللؤلؤة؟
وبعد هذا أقول : إنّي رأيت في بعض المكاتيب أنّ وصيّه كان ملاّ محمّد جان وهو كان وصيّ العلاّمة الملجسي أيضا .
وبعد هذا أقول : إنّ رسالة المعمولة في مقدّمة الواجب موجودة عندي بخطّه ، وهو كانت مع الرسالة المعمولة في شبهة الاستلزام في جلدٍ واحد .
وفي صدر رسالة مقدّمة الواجب ـ عند الإيراد على تعريف الواجب المطلق والمشروط المشار إليها ـ عبارة لو لم يتّفق شرحها من ولده العليل لما كان للوصول إلى المراد منها سبيل ، قال :
ولا يخفى ما في التعريفين المذكورين ، إذ لم يعتبر فيما قيّد به الوجوب نفيا وإثباتا في الإطلاق والتقييد كونه ممّا يتوقّف إليه وجود الواجب ، بل
إنّما هو أعمّ من ذلك وهو ظاهر ، فعند أخذه على ما ذكر ينتقض التعريف الأوّل عكسا على وجه ومنعا على آخر ، والثاني عكسا على الوجهين. ۴
وتنقيح الحال بما حرّرنا في تعليقات الإشارات في بحث مقدّمة الواجب.
وفي رسالة شبهة الاستلزام كان على العلاّمة السبزواري؛ وقد اقتصر في رياض العلماء على الإيراد على الفاضل القزويني والنائيني .
ومن كلامه في الرسالة المشار إليها ردّا على العلاّمة السبزواري قوله :
ثمّ إنّه لمّا وصل إلى هذا [الفاضل] ما أوردته عليه تصدّى لتفهيم كلامه وترميم مرامه فكتبنا في المقام حاشيتين ، ولعمري ما زاد بهما إلاّ الخفّة والشين ، وقد رجع عن المقصود بخفّي حنين .
وأصل الواقعة أنّه قد ألّف العلاّمة السبزواري رسالة في شبهة الاستلزام ثمّ جرى العلاّمة الخوانساري على الإيراد عليه في رسالة ، ثمّ وصل هذه الرسالة إلى العلاّمة السبزواري ، فعمل رسالة في دفع ما أورده العلاّمة الخوانساري ، وهي بخطّه عندي مذبورة ، ثمّ أورد العلاّمة الخوانساري ما أجاب به العلاّمة السبزواري ، موجود عندي .
قال العلاّمة السبزواري في أوّل الرسالة المعمولة ثانيا :
أمّا بعد فإنّي ألّفت سابقا مقالةً في حلِّ العقدة المشهورة به «شبهة الاستلزام» ، واتّفق أنّها تشرّفت بنظر بعض أعاظم أفاضل المعاصرين ـ دامت أيّام فضله ـ ولم يتشرّف بنظر العناية والقبول ، [بل] بحسب اتّفاق ضعف البخت والإقبال ، لوحظت بعين الردّ والإبطال ، فاتّفقت منّي
مطالعة الردود والاعتراضات المذكورة ، فوجدت فيها مواضع تستحقّ زيادة البحث والتفتيش ، ولم يكن من عادتي التعرّض لأقاويل أهل العصر والزمان ، خوفا من أن يكون في ذلك ضيقا في أنفسهم وثقلاً على طبائعهم؛ لكن يظهر ممّا كتبه الفاضل المذكور تلويحا بالترخيص في ذلك ، بل يلوح ممّا فيه ، فقام الداعي إلى إبداء ما اعتقدت فيها من الضعف والخلل ، فاستخرت اللّه وكتبت هذا التعليق ، شارطا على نفسي أن لا أتعمّد مجاوزة حقّ أو نصر باطلٍ ، بل يكون بتحريك اللسان والبيان على وفق ما عقد عليه الجنان ، وأن لا أذكر إلاّ ما رسخ في قلبي وعقدت عليه عقيدتي ، وعلى اللّه التوكّل ومنه الاستعانة في كلِّ باب ، فإنّ إليه المرجع والمآب .
وقال في الرسالة قريبا من الآخر عند الجواب من العلاّمة الخوانساري :
في هذا الكلام جنبة مخاشنةٍ من غير جرم ، وجناية ظاهرة لا يوافق النهج المسلوك بين الناس والطريق المعهود في العادات ولا يناسب زاكيات الأخلاق وطيّبات السير ، فلا يليق بمثله وإن لم ننكر استحقاقنا له ولا أزيد منه ، ولا يستعظم ذلك منه ولا نشكوه نظرا إلى استحقاقنا ، فإنّ من استحقّ النار لو صُوِّح على القاء الفحم والرماد فأبى أو شكا لم يعدل ، وإنّما الغرض التنبيه على الأليق ولا نسند إليه ـ أيّده اللّه ـ مخالفة الصواب . انتهى .
مع ما أنّ من أنّه كان استادا في بعض الأزمان للعلاّمة الخوانساري ، وقال في آخر الرسالة :
وإن تشرّفت هذه الكلمات بنظر الفاضل المذكور ـ أيّده اللّه وبلغه ما يتمنّاه ـ فالملتمس من جنابه العالي أن لا ينظر فيه بنظر السخط أو الرضاء ، بل نظر مهدٍ مرشدٍ ، شارطا على نفسه من اللّه سبحانه ما شرطت على نفسي الشرط المذكور ، ثمّ ليحكم بما تقرّر عليه رأيه المصيب ،
فهو المطاع المتّبع. انتهى.
وانظر أنّ العلاّمة السبزواري كيف جرى على طريقة حسن الأخلاق في العبارات المذكورة .
بقي الكلام في قول العلاّمة الخوانساري في عبارته المتقدّمة :
«وقد رجع عن المقصود بخفّي حنينٍ» .
اعلم وقد اختلف في أصله ، ففي بعض : أنّ حُنينا كان رجلاً يدّعي السيادة فجاء إلى عبدالمطّلب وعليه خفّان ، فقال : «يا عمّ إنّي من هاشم» ، فأمعن النظر فقال : «ما أرى فيك شمائل هاشم ، فارجع!» فرجع حنين بخفّيه. ۵
وعن بعض آخر : أنّه كان جلاً مغنّيا ، فدعاه قوم من أهل الكوفة فخرجوا به إلى الصحراء فضربوه وسلبوا ثيابه وتركوا عليه خفّيه لا غير ، ولمّا رجع إلى زوجته وكانت منتظرة لرجوعه على عادته بما يفضل عن أطعمة أهل النزهة ـ وبراءة على تلك الآن ـ فقالت لكلّ من سألها عنه : رجع حنين بخفّيه. ۶
وعن ثالث : هو اسم إسكافٍ من أهل الحيرة ، ساومه أعرابي بخفّين ولم يشترهما ، فذهب الأعرابي ثمّ ذهب حنين وألقى خفّا في طريقه ، ثمّ ألقى خفّا آخر وغاب في موضع ، فسار الأعرابي فصادف خفّا فقال : ما أشبه هذا بخفِّ حنين ولو كان معه الآخر لأخذته ، فسار الأعرابي فصادف خفّا آخر [فعقل بعيره ورجع إلى الأوّل] ، فجاء حنين وأخذ الإبل وذهب ، فجاء الأعرابي ورأى أنّ الإبل [ذهب] ، فذهب إلى قومه بالخفّين ، فسألوه عن حاله فقال : جئت بخفّي حنين. ۷
وقد ذكر : أنّ حنين لصا مغيرا فاُخذ وصُلب ، فجاءته أمّه وعليه خفّان
فانتزعهما ورجعت ، فقيل : رَجَعَت بخفّي حنين أى رضِيَت منه بذلك. ۸
ونظير الحيلة المحتال بها على القول الأوسط ما سمعت من : أنّ رجلاً سرق أحد خفّي رجلٍ ، فذهب الرجل إلى الخفّاف وأعطاه مبلغا وأحد الخفّين ليعمل له خفّا آخر شبيه ذلك الخفّ ، فجاء السارق ورأى ما صنعه الرجل ، ثمّ لمّا ذهب الرجل فجاء السارق وقال : إنّ الرجل وصل إليه خفّه المسروق وهو هذا فاعط الخفّ الذي عندك والمبلغ ، فأخذ الخفّ الذي كان عنده والمبلغ الذي أعطاه صاحب الخفّ! العياذ باللّه من حيل الإنسان!
ثمّ إنّه ربما قيل : يخفى حنين وخفى حنين وأحدهما بمعنى خفاء الإنين .
وبعد هذا أقول : إني رأيت منه انشاءات حسنة في بعض المجاميع.
وبعد هذا أقول : إنّ من لطيف الكلام ما قيل في شأنه من جانب السلطان في الجواب لولده جمال الملّة والدين ، حيث أرسل ما كتبه بالفارسية ترجمةً لمفتاح الفلاح بأمر السلطان في تضاعيف مدح ولده :
وتهذيب أخلاقه مقنعة لمن استرشد بارشاد المفيد ، وبيان شرح دروسه ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وبعد هذا أقول : إنّ في رياض العلماء : يعبّر عنه بالأستاد المحقّق ، وعن صاحب الذخيرة بالأستاد الفاضل ، وعن صاحب البحار بالأستاد الاستناد ، وعن المدقّق الشيرواني بالأستاد العلاّمة؛ وعن المحدّث الجزائري أنّه كان يعبّر عنه بشيخنا المحقّق ، وعن صاحب البحار بشخينا المعاصر ، وعن المحدّث الكاشاني بشيخنا الكاشي .
وقال في منبع الحياة :
وكان أستادنا المحقّق الذي انتهت إليه سلسلة التحقيق في المعقول والمنقول العلاّمة الخوانساري ـ عطّر اللّه مرقده ـ يقول : «لو ملكت بيتا من ذهب لأعطيته بمن يستدلّ بدليل عقليّ ثمّ جميع مقدّماته ولم يورد عليه العلماء ما يوجب الطعن فيه» وقد ذكر الفاضل الخوانساري في تعليقات الباغنوي حواشي.
وبعد أقول : إنّه قد ألّف العلاّمة الخوانساري رسالة في ردّ ما أورد به العلاّمة السبزواري على كلمات العلاّمة السبزواري في رسالة المعمولة أوّلاً ، والظاهر أنّ الرسالة التي عندي بخطّ العلاّمة الخوانساري في «شبهة الاستلزام» إنّما هي ما رسمه في رسالة المعمولة ثانيا في ردّ كلمات العلاّمة السبزواري .
قال العلاّمة الخوانساري في أوّل رسالته المشار إليها :
إنّي قد كتبت سالف الأيّام رسالةً في حلّ شبهة الاستلزام ، ولمّا كان الفرض من إبداء الشبهات ودفع إشكالها وإيراد المغالطات وحلّ عقالها تشحيذ الأذهان والأفهام وتثبيتها لئلاّ تقع في أغلاط الأوهام ، كان الإطناب فيه مطلوبا ، والإسهاب مرغوبا ، فلا جرم أوردت أجوبة كثيرة مما سنح ببالي أو وصل إليّ من غير أمثالي وأمثالي ، وتعرّضت لما فيها من الجدل والقيل والقال ، وكان من جملتها جوابات لبعض أجلّة فضلاء الحال ، أديم له الفضل والكمال .
ثمّ قد اتّفق أن تشرّف ما كتبته بنظر هذا الفاضل ـ لا زالت فكرته عن الخطأ والخطل مصونة ـ ووجد فيه بقوّة فكره الصائب وجوها من الضعف والخلل مكنونة ، فتصدّى من باب التفضّل والامتنان علينا لكشف تلك الوجوه وبيانها مع قلّة اعتنائه بشأنها ، فبيّنها ببيان شافٍ كافٍ وكشفها ببسط وافر ، وافٍ طيّ مقالة لطيفة وضمن رسالة شريفة .
ولكن مع ذلك ، لمّا كانت المعاني التي قرّرها في غاية الدقّة والخفاء ، والمطالب التي حرّرها في نهاية الرفعة والعلاء ، لم يسفر لنا وجه
المقصود من تحت الحجاب ، وبقينا على ما كنّا عليه من الشكّ والارتياب ، فقصدت أن أعرض ما عرض من الشكوك فيما قال ـ دام فضله ـ من المقالة وأرسله من الرسالة ، عسى أن يلحظه مرّة أُخرى بعين العناية ويزيل الشكوك بالمرّة بلطف الدراية .
وقال في تضاعيف المقال :
قوله «ويقع في ذهني أنّ توهّم التعريض» كان فيه تعريضا بأنّي لا أفهم معنى «ما قيل» وهو كما قال بل كان أنقص مرتبةً من أن يقال في شأني هذا المقال!! ولاعجب في أن لا أفهم معنى «ما قيل»؛ إنّما العجب في فرق هذا الفاضل بين «آنچه يك كسى گفته» و بين «آنچه گفته شده»؛ وحكمه «أنّ توهّم التعريض» نشأ من حمل «ما قيل» على الأوّل دون الثاني.
وأعجب منه قوله بعد ما قال :
إنّ معنى «ما قيل» ليس «آنچه يك كسى گفته» حتّى يكون تعريضا ، بل : «آنچه گفته شده» وليس فيه تعريض؛ إنّه لا فرق بين قولنا : «ما قيل» أو «ما قاله قائل»، إذ ظاهر أنّه ليس معنى «ما قاله قائل» إلاّ «آنچه يك كسى گفته».
وقال أيضا :
والحاصل أنّ هذا أمر مركوز في الطبايع ، إلاّ أن يكون طَبْعٌ طُبِعَ عليه وتدنّس بأدناس الشبهات والأباطيل؛ ألاترى أنّ هذا الفاضل مع إنكاره له وجعله ذلك الإنكار مبنىً لأقاويله المزخرفة استعمله هاهنا لغفلته عمّا خيّل إليه وسوّل له الوهم من الرأى الباطل الذي رآه ، وعسى أن يكون بعد ما يرى هذا من نفسه يرجع عن رأيه الباطل إن لم يمنعه العصبية والعناد.
وقال أيضا :
فهذا الفاضل إمّا أن يقول : «إنّ مرادهم جميعا من هذه الشرطية ما ذكره من أنّه على حالة إذا انضمّت إلى الوجود يلزم ارتفاع العدم» فسفسطة
ظاهرة؛ إذ ظاهرٌ أنّ هذا المعنى لم يخطر ببال أحد من هذه القضيّة سوى هذا الفاضل .
أو يقول : «إنّ جميع الناس غلطوا واشتبهوا!» فذلك أمر يقضى منه العجب؛ إذ من أعجب العجائب أن يغلط جميع [الناس] في هذا الأمر الظاهر ولم يتفطّنوا له؛ فما بالهم غفلوا عن ذلك! وما صار سبب اشتباههم وشيوع هذه الغفلة بينهم! وبالجملة نسبة الغلط والاشتباه إلى هذا الفاضل كأنّها أولى من نسبتها إلى جميع الناس .
وأيضا قال :
قوله : «فى هذا الكلام جنبة مخاشنة» ؛ لا يخفى أنّ هذا الكلام ليس في عدم الملائمة بالمنزلة التي ذكرها هذا الفاضل ـ دام تأييده ـ ؛ إذ غايته إسناد خطأ إلى جنابه العالي على سبيل الظنّ مع استدراك له بالتخطئة ورجوع منه وانكار عليه . وظاهرٌ أنّ إيراد النظر والإعتراض على أحدٍ إسنادٌ للخطأ إليه على سبيل الجزم ، فلو كان ذلك غير ملائم للطريق المعهود في العادات ، لكان هذا أيضا كذلك بطريق الأولى.
مع [أنّ] هذا أمر شائعٌ ذائعٌ بين العلماء ، وكتبهم كلّها مشحونة به حتّى المشهورين بالورع والصلاح والتقوى والاحتياط في الدين ، الذي بلغوا في هذا الأمر قصواه وطلعوا ثناياه ، مثل ۹ الولد مع الوالد والتلميذ مع الأستاد ، ولم ينكر عليهم [أحد] ولم يعدوه إذاعةً للعقوق وإضاعة للحقوق.
وكان السرّ فيه أنّ العادة لم تجر بأن يكتب أحدٌ شيئا ولم يتعرّض له آخر ، سواء كان تعرّضه حسنا أو قبيحا حتّى صار مثلاً من مصنّف فقد استهدت.
وأيضا في التعرّض له مصالح كثيرة دينيّة ، وفي تركه مفاسد كذلك ؛ إذ ربما كان خطأً وكان ذلك سببا لوقوع [خلق] كثير مدّة مديدة ـ بل أبدا
على رأى الحكماء ـ في الخطأ والضلال [والجهل المركّب الذي يحسبونه عذابا أبديّا ، فلو لم يتعرّض لإبطاله ، وقع كثير في الضلال] ، ولو كان صوابا أيضا [وتعرّض له أحدٌ خطأً ، فربما يصير ذلك سببا لزوال جهل هذا التعرّض ، إذا] تعرّض أحد لردّه ، ونحو ذلك من المصالح والمفاسد التي لا يخفى.
فعلى هذا إذا كتب أحدٌ شيئا ، فإن كان له أدنى حظٍّ من الفهم والشعور أو الورع [والدين] ، لابدّ أن يوطّن نفسه على أن يصير هدفا للملام وغرضا للسهام ، ويرض بأن يتعرّض له ذوو الأفهام ، عسى أن يصير ذلك سببا لزوال جهله المركّب ، ومانعا من أن يقع خلق كثير بسببه في الضلال ، ويكون ذلك عليه من أعظم الإثم والوبال ، ويستحقّ به العقاب والنكال.
فإذن كلّ أحد ممن ذكرنا ، إذا صنّف كتابا أو ألّف خطابا أو أبدع مقالةً أو أنشأ رسالةً ، فذلك منه إيذان وإعلام بأنّه راضٍ بأن يتعرّض له الأنام وينصب نحوه سهام الأقلام.
وظنّي أنّ ترك التعرّض والإيراد على كلام أحدٍ خوفا من أن يثقل عليه أو لا يرضى به من أسوء الظنون به؛ إذ في هذا الظنّ نسبة له إلى البلاهة وقلّة الشعور والورع والإحتياط والدين ، كما بينّا وقرّرنا وجهه؛ و[أنا] مع ذلك كلّه معترف بالتقصير والزلاّت وأسأل من خُلقه الكريم العفو والصفح ، فإنّه من أخلاق الكرام وخصال الخيار من الأنام.
وأيضا قال :
[وهذا الفاضل] قد حرّم على نفسه التلفّظ بالاستحالة ، إمّا بزعم منّا حيث بنينا الأجوبة على الاستحالة ، وإمّا لإظهار كمال قوّته وطول يده في الفضل بحيث يجيب عن الشبهة بدون التمسك بالاستحالة ، كما فعل غيره؛ إذ عند التمسك بها ، الجواب أسهل ، بل الإشكال في أن يجاب بدونه ، ولذا أورط نفسه في الورطات وأوقعها في الهلكات ، والمرجوّ
أن يعفى عنه وعنّا الزلاّت والعثرات.
وأيضا قال :
قوله : «فإن رجع وقال» ،
هر دم از اين باغ ، برى مى رسدتازه تر از تازه ترى مى رسد!
وقال في آخر الرسالة :
هذا آخر ما يتعلّق بكلام هذا الفاضل ـ دامت أيّام إفاداته وكثرت آثار إفاضاته ـ والمرجوّ من لطفه العميم ، إن كان له فضلَ وقتٍ كان فيه فراغه من الاشتغال بالمطالب العالية ، أن ينظر فيما كتبته بنظر العناية والشفقة ويصلح ما كان فيه من السهو والخبط ، لعلّه يصير سببا لخلاصنا عن الجهل فيكون مزيدا لألطافه وإفضاله علينا ـ دامت ألطافه وإفضاله ـ !
وبعد هذا أقول : إنّه كتب رسالة في الردّ على الفاضل القزويني في دعوى الدور في بعض المطالب ، وقال :
كتب الفاضل المشار إليه رسالة في كمال الاختصار في الإيراد عليّ ، قال في أوّل الرسالة : أمّا بعد ، فقد رأينا فيما كتبتم «الدفع شبهة الدور» تدقيقات عجيبة وتحقيقات بديعه ، فكلَّ عن تصورها أذهان أولي الألباب ، المميّزين للقشر عن اللباب ، أحسنتم أحسنتم ، شكرت مساعيكم الجميلة ، وأديمت إفاداتكم النبيلة ، ويخطر بالبال أن أعرض عليكم في تزويج المطلب الكاسد وإصلاح البيّنات الفاسد .

1.في «د» : «مضامينه» .

2.في «د» : «جوده» .

3.لؤلؤة البحرين ۹۰ : ۳۴ .

4.رسائل آقا جمال الخوانساري ، المؤتمر لذكرى آقا حسين الخوانساري ، ص ۷۶ (رسالة في مقدّمة الواجب) .

5.مجمع الأمثال ، الميداني ، ۲ : ۴۱ / ۱۵۶۸؛ لسان العرب ۱۳ : ۱۳۳؛ الصحاح ۴ : ۲۱۰۵ (حنن) .

6.لم يرد في الجوامع اللغوية وكتب الأمثال .

7.الأمثال ، أبو عبيد ، ۲۴۵ : ۷۷۹ ؛ المستقصى في الأمثال ۱ : ۱۰۵ـ۱۰۶ / ۴۱۹؛ مجمع الأمثال ۲ : ۴۰ / ۱۵۶۸؛ لسان العرب ۱۳ : ۱۳۳؛ القاموس ۴؛ الصحاح ۴ : ۱۲۰ (حنن) .

8.في هامش كتاب الأمثال : ۲۴۶ / ۷۷۹ ، على حاشية الأصل «قال أبو الحسن : وحكى غيرنا عن غير أبي عبيد أنّ حنينا كان لُصّا مغيرا ، فأخذه سلطان فقتله وصلبه ، فجائته أمّه وعليه خفّان وهو مصلوب ، فأخذت خفيّه ورجعت ، فقيل : رَجَعتِ بخفّي حنين ؟ أي إنّها رضيت بخفّيه منه» .

9.في «د» : «حتّى» .

صفحه از 558