وأمّا الحوالة على الرجوع إلى إفاداته السابقة ، فلا فائدة للسائل الذي يمكن أن رآها مرّة بعد مرّة ولم يطمئنّ بها ، وإن أراد التقليد فهو عنه نهى ، فعليه أن يبيّن الدليل ، واللّه يهدي مَنْ يشاء إلى سواء السبيل .
وأمّا قوله في جواب «فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» ، ۱ فإذا قيل لهم في النشأة الاُخرى : يا عباد اللّه قد سكت اللّه عن أشياء في النشأة الاُولى رحمةً للعباد ، وأباح لهم ما لم ينههم عنه في كتابه وسنّة رسوله وأوليائه عليهم السلام ، وبيّن لكم أنّه لم يسكت اللّه عن أشياء نسياناً لها ، فلا تتكلّفوها رحمةً من اللّه لكم فاقبلوها ، وأعطاكم عقلاً يحكم بقبح تكليف الغافل ولم يجوّز أن أدّوا إلى كافّة عباده بشيء لم يصل إليهم فلِمَ حرمتم ما لم يحرم اللّه ؟ وضيّقتم عليهم بتحريم ما أباح اللّه ، فهلمّ شهداءكم إنّ اللّه حرّم هذا ، فأيّ شيء تقولون؟ وإلى أيّ شيء تؤولون؟ «الذين يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ»۲
، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ»۳ .
فإن قلت : فعلى أن لا يكون كلّ مجهول الحكم وما لا نصّ فيه شبهةً ولا يجب التوقّف عنده ، لزم جواز العمل بالمجهول ، وقد وجب علينا أن نعمل بالمعلوم من المنقول.
قلنا : لا يلزم ذلك ؛ لأنّا إذا وجدنا بعدما تفحّصنا بالفحص التامّ في مدارك الأحكام ، ونظرنا في أخبار الحلال والحرام أنّ هذا الأمر ممّا لم يسكت اللّه عنه يصير معلوما لنا ونعمل بعلمنا وإن لم يبيّن ، ومن الترجيح لا نتمكّن ، فكان شبهة علينا بالمعنى الذي قدّمنا فحينئذٍ نتوقّف عندها ، ونعمل بالاحتياط كما به اُمرنا حتّى نسأل عنه ونعلمه ، وإذا وجدنا أنّه ممّا سكت اللّه عنه ، علمنا أنّه مباح ورحمة من اللّه لنا ، كما استفدناه من آثار أئمّتنا عليهم السلام وأمرونا به ، وعمل بذلك علماؤنا السلف قاطبةً وذهبوا إليه ، وقد تقدّم