الشواهد الشعريّة ومناسباتها فى الكتب الأربعة الحديثية - صفحه 350

(استشعرت) وتأخّر عنهما معمول واحد، وهو قوله (لونَ مذهب) وكلّ واحد من هذين العاملين يطلب هذا المعمول، فالعامل الأوّل يطلبه فاعلاً، والعامل الثانى يطلبه مفعولاً، وقد أعمل الشاعر الثانى منهما، فنصب (لون مذهب) باستشعرت، وأضمر فى (جرى) فاعلاً دلّ عليه (لون مذهب)، ولو أعمل الأوّل لرفع (لون مذهب) وأظهر ضمير المفعول فى (استشعرت) فقال: فاستشعرته.
وإنّما أورده الشيخ الطوسى هذا الشاهد فى معرض حديثه عن آية الوضوء، قوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» 1 ففى حال قراءة (وأرجلكم) بالنصب، فأيّهما أولى: العطف على الوجوه، أم العطف على محلّ الرؤوس؟
يجيب الشيخ الطوسى رحمه الله بالقول: عطف (الأرجل) على موضع (الرؤوس) أولى مع القراءة بالنصب، لأنّ نصب (الأرجل) لا يكون إلا على أحد الوجهين؛ إمّا بأن يعطف على (الأيدى) و(الوجوه) فى الغسل، أو يعطف على موضع (الرؤوس) فينصب، ويكون حكمها المسح، وعطفها على موضع (الرؤوس) أولى، وذلك أنّ الكلام إذا حصل فيه عاملان أحدهما قريب والآخر بعيد، فإعمال الأقرب أولى من إعمال الأبعد، وقد نصّ أهل العربية على هذا، 2 فقالوا: إذا قال القائل: أكرمنى وأكرمت عبداللّه ، وأكرمت وأكرمنى عبداللّه ، فحمل المذكور بعد الفعلين على الفعل الثانى أولى من حمله على الأوّل؛ لأنّ الثانى أقرب إليه.
وقد جاء القرآن وأكثر الشعر بإعمال الثانى، قال اللّه تعالى: «وَ أَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن

1.سورة المائده (۵): الآية ۶.

2.نصّ البصريون من النحاة على أنّ الثانى أولى بالمعمول، للنقل والقياس، أمّا النقل فقد ورد كثيرا فى القرآن الكريم وفى المنظوم والمنثور من كلام العرب، وأمّا القياس فلأسباب ثلاثة: أوّلاً: أنّ الفعل الثانى أقرب إلى المعمول من الأوّل، وليس فى إعماله دون الأوّل نقص معنىً، فكان إعماله أولى. ثانيا: أنّه يلزم على إعمال الأوّل منهما الفصل بين العامل وهو المتقدّم ومعموله وهو الاسم الظاهر بأجنبى من العامل، وهو ذلك العامل الثانى، وهذا خلاف الأصل. ثالثا: أنّه يلزم على إعمال الأوّل فى لفظ المعمول أن تعطف على الجملة الأولى وهى جملة العامل الأوّل مع معموله قبل تمامها، والعطف قبل تمام المعطوف عليه خلاف الأصل أيضا، والمسألة خلافية بين نحاة الكوفة والبصرة، راجع: الإنصاف فى مسائل الخلاف الأنبارى، ج ۱، ص ۹۲؛ شرح الألفية ابن عقيل، ج ۱، ص ۵۴۸.

صفحه از 416