لأنّ البصيرة تكون في القلب، والمقصود بالقلب في خطاب المفسّرين هو «العقل»، ذلك بأنّ القلب لا يتصوّر الأشياء، وإنّما الذي يدركها ويتصوّرها العقل «الذهن البشري».
ولمّا كان العقل هو موضع التفكير والتصوّر والتوهّم والخيال، عبّر عنه سبحانه بالأبصار؛ لأنّه يُبصَر به من خلال التصوّر . وعلى الرغم من أنّ التصوّر العقلي لا حدود له ولا حدّ ، فإنّه لا يمكنه بأيّ حالٍ من الأحوال أن يحيط باللّه تعالى مهما بلغ واجتهد في تصوّره وتوهّمه، ومهما كانت درجة ذلك التصوّر ومقدرة ذلك العقل المُصّور ، فكأنّ الإمام بتفسيره ل «الأبصار» بآية الأنعام ـ التي أثبت بها أنّ الأبصار هي الأوهام ـ قد رجع خطوة إلى الوراء في نطاق بيان دلالة آية: «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَـرُ» ؛ إذ ليس المراد إبصار العيون، وإنّما إبصار العقول .
فكأنّ الإمام بهذا التفسير القرآني قد بيّن مكانة اللّه تعالى وعظمته وعلوّ شأنه عن الإدراك بأيّ صورة من الصور، فهو لم يفسّر النصّ بأبصار العيون كما يخاله الناس جميعا ، بل فسّرها بأبصار العقول ؛ ذلك بأنّ الذي لا يستطيع أن يرى اللّه سبحانه بعينه، فلربّما يخطر في باله أنّه قادر على أن يراه في تصوّره وعقله «تشخيصا»، أو قد يحسب بعض الناس أنّ اللّه تعالى نفى إبصاره بالعيون ولم ينفِ إبصاره بالعقول، ومن ثمّة فإنّ مسألة تصوّره والنظر إليه في الخيال الذهني أمر ممكن، وقد تكون إحدى تلك التصوّرات معبّرة عنه فعلاً، كما هو في الحقيقة الوجودية له .
فمن أجل أن لا يحدث هذا الاضطراب الدلالي أو الاستدلالي بأسره، عاد الإمام خطوة إلى الوراء في تفسيره للفظة «الأبصار»، وأسندها بدلالة آية أُخرى فأقرّ المتلقّي على أنّ معناها هو «الإبصار الذهني» ؛ ذلك بأنّ نفي الإبصار الذهني أبلغ في إبعاد مراد رؤيته تعالى من نفي الإبصار العَيني؛ لأنّ العين ترى أشياء ومجسّمات مشخّصة وظاهرية فحسب، فهي محدودة ومحكومة بالموجود الخارجي، على حين أنّ البصيرة «العقل أو التصوّر الذهني» بمقدرته أن يتصوّر أشياءً أكثر من التي تراها العين