بحوث فقهية المباني الفقهية للمحدّثين في ضوء كتاب الكافي - صفحه 261

أوّلاً: المبنى الفقهي

المبني لغةً: مأخوذ من بَنى يبني بناءً ، يقال: بنى فلان بيتا من البنيان ، وهو مصدر كالغفران ، وقال الجوهري:
البنيان: الحائط ، فسُمّي به المبنى ، مثل الخلق إذا أردت به المخلوق ۱ .
المبنى اصطلاحا: وهو متجذّر من التعريف اللغوي ، من حيث ما يستفيده الفقيه الباحث من الدليل ويشيد عليه أدلّة بنائه ، لذا لا نجد تعريفا في كتب الفقهاء يحدّد بدقّة تلك الاستفادة ، وأقرب ما يمكن أن يقال في بيانه:
المبنى: هو الدليل الذي يلتزم الفقيه به على ما يبتنيه لنفسه من أُسس أُصولية وفقهية ورجالية وعلاجية ، عند تعارض الأدلّة في إصدار فتواه ، وليست بالضرورة أن تكون موافقة لغيره ، وكلّما كثر الفقهاء كثرت احتمالات الاختلاف في المبنى ۲ .
وتتعدّد تلك المباني بتعدّد نظرة الفقيه إلى جهة الرواية ، فمَن سبر طرقها ووقف على وثاقة رجالها ومِن تراكم تلك الروايات ، جعل له مبنىً رجاليا اعتمد فيه على توثيق طائفة من الرواة دون غيرهم .
ومَن كانت همّته اكتشاف البعد القاعدي لتقنين القواعد الكلّية الأُصولية ، كانت مبانيه أُصولية ، ومن جعل دليله أو مستنده رواية معيّنة دون غيرها معارضة لها ، كانت مبانيه فقهية ، فالتعدّد جهتي اعتباري وليس واقعيا حقيقيا .

ثانيا: المبنى الفقهي للشيخين

والمقصود منه بيان ما أوضحه كلّ من الشيخين ، فيما اعتمده في كتبه الروائية من الأحاديث ، وعن نظرته في أخذه للروايات من كتب الأصحاب .
فقد ذكر الكليني رحمه الله في مقدّمة كتابه الكافي بعدما رغب أحدهم أن يكون عنده كتاب كافٍ يجمع فيه من جميع فنون علم الدين ما يكفي المتعلّم ، ويرجع إليه المسترشد ، والعمل به وفق الآثار الصحيحة الواردة عن الصادقين عليهم السلام ، والتي بها يؤدّي فرض اللّه عزّ وجلّ وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله ، فكان جوابه رحمه الله بعد أن يسّر طلب ما أحبّ من التأليف:
اعلم يا أخي أرشدك اللّه أنّه لا يسع أحد تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه ، إلّا على ما أطلقه العالم عليه السلام بقوله : اعرضوهما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه عزّ وجلّ فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فردّوه ، وقوله عليه السلام : دعوا ما وافق القوم فإنّ الرشد في خلافهم ، وقوله عليه السلام : خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه .
ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه ۳ .
فهو تصريح منه رحمه الله في رسم معالم مبناه من أنّ اختلاف الرواية بسبب اختلاف عللها وأسبابها ، لا يسع لأحذ تمييزه إلّا بما ذكره من شروط العرض على كتاب اللّه ، أو الأخذ بخلاف ما أخذه القوم ، أو المجمع عليه .
والمراد من الروايات المختلفة: التي لا تحتمل الحمل على معنىً يرتفع به الاختلاف .
وبالمقابل أوضح الصدوق رحمه الله في مقدّمة كتابه كتاب من لا يحضره الفقيه الأُسس الكفيلة في رسم معالم مبانيه ، من خلال ما يفتي به في ذلك الكتاب، بعدما طلب أحدهم تصنيف كتاب في الفقه في الحلال والحرام والشرائع والأحكام ، فأجابه إلى ذلك بقوله:
وصنعت له هذا الكتاب بحذف الأسانيد ؛ لئلّا تكثر طرقه ، وإن كثرت فوائده ، ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي تقدّس ذكره وتعالت قدرته ، وجميع ما فيه مُستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع . . . ۴ .
فهذا إذعان بصحّة مرويات مصنَّفه رحمه الله ؛ لأنّه كتاب فتوى ، وخصوصا كتاب الصدوق، كتاب حديثي تنتهي فتواه بالأعمّ الأغلب إلى مرويات الأئمّة عليهم السلام ، ولذا قيل: «إذا اعوزتنا النصوص ، رجعنا إلى كتب ابن بابويه» .
وكتب الفتوى هي عصارة ما تبنّاه الفقيه من مبانيه ، اجتمعت فيه المباني الفقهية والرجالية والأُصولية وغيرها .
ولكن ليس بالضرورة أن تكون تلك المباني موافقة لغيره من حيث الطرح والأخذ ، فمجال الأخذ بها والعمل وفقها بعد تحقيقها يعود إلى الاطمئنان النفسي والقطع بها .
مضافا إلى ذلك أنّ آراء ومباني القدماء يمكن تحصيلها من عناوين أبواب كتبهم الروائية وما يفتونا به، وما يلتزمون به عملاً وفقها .
وإذا كان كلّاً من المحدّثَين (الكليني والصدوق) لا ينقل إلّا ما يراه صحيحا ، فيمكن أن يقال بعدم أهمّية كتاب كتاب من لا يحضره الفقيه ، والاعتماد على الكافي ، ولكن يمكن دفع هذا التنافي:
1 ـ لا يدلّ تأليف الفقيه على ضعف الكافي عنده ، ودليل هذا كما سيأتي في قول الصدوق في باب (الوصي يمنع الوارث) ، فإنّه لا ينقل في الباب الذي ذكره إلّا رواية للكليني ويبني حكمه عليها وفق مبنى الكليني .
2 ـ جعل الصدوق له طريقا إلى الشيخ الكليني عن طريق مشايخه ، كما سيتّضح ذلك بعد إن شاء اللّه . ومنه يظهر مواكبة الصدوق للكليني في عرض روايات أهل البيت عليهم السلام والاعتماد في نقله على بعض روايات الكافي .

1.الصحاح للجوهري: ج ۶ ص ۲۲۸۶ مادّة «بنا».

2.نظرات إلى المرجعية للعاملي: ص ۴۰.

3.الكافي للكليني: ج ۱ ص ۸.

4.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۱ ص ۲.

صفحه از 293