بحوث فقهية المباني الفقهية للمحدّثين في ضوء كتاب الكافي - صفحه 264

ثالثا: طريق الشيخ الصدوق إلى الكليني

اعتمد الصدوق رحمه الله في جملة من مبانيه الفقهية على عدّة روايات نقلها من كتاب الكافي ، وأوضح في مشيخته الطريق إلى الكليني:
وما كان فيه عن محمّد بن يعقوب الكليني رحمه الله فقد رويته عن محمّد بن محمّد بن عصام الكليني ، وعلي بن أحمد بن موسى ، ومحمّد بن أحمد السناني (رضي اللّه عنهم) ، عن محمّد بن يعقوب الكليني ، وكذلك جميع كتاب الكافي فقد رويته عنهم ، عنه ، عن رجاله ۱ .
والثلاثة من مشايخ الصدوق ترضّى عنهم في المشيخة ، وذكر ما نقل عنهم في كتبه ، نعم قد يذكر السناني بالإهمال والذمّ ، ولكن يمكن تصحيح هذا الوجه بما ذكره الأردبيلي بقوله:
ولم يذكر الأخير إلّا مهملاً أو مذموما ، إلّا أنّ اجتماعهم ـ أي الثلاثة ـ يصحّح الصدق ۲ .
ولعلّ من صحّح هذا الطريق لذلك صاحب منهج المقال أيضا ۳ .

الفصل الأوّل: المباني المتوافقة

وهي تلك المباني التي وافق فيها الصدوق رحمه الله الكليني رحمه الله فيما نقله عنه أو عن غيره ، وقد تكون أُطروحه تلك المباني من التوافق في موردين:
المورد الأوّل: المباني المتوافقة بينهما وبين المشهور .
وقد تعدّدت جهات نقله لتلك المباني بطرق عديدة ، منها:
الطريق الأوّل: ما تفرّد الصدوق رحمه الله في تثبيت مبنىً له من خلال ما نقله من رواية ليس لها طريق إلّا محمّد بن يعقوب الكليني ، فقد ذكر في باب الوصي يمنع الوارث ماله بعد البلوغ فيزني لعجزهِ عن التزويج ، نقلاً عن الكافي:
روى محمّد بن يعقوب الكليني رضي اللّه عنه ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن قيس ، عمّن رواه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال في رجلٍ مات وأوصى إلى رجلٍ وله ابن صغير ، فأدرك الغلام وذهب إلى الوصي فقال له: ردّ عليّ مالي لأتزوّج ، فأبى عليه ، فذهب حتّى زنى . قال: يلزم ثلثي إثم زنا هذا الرجل ذلك الوصي الذي منعه المال ولم يعطه فكان يتزوّج۴.
وقد علّق الصدوق رحمه الله على هذه الرواية بقوله:
قال مصنّف هذا الكتاب: ما وجدت هذا الحديث إلّا في كتاب محمّد بن يعقوب ، وما رويته إلّا من طريقه ، حدّثني به غير واحد ، منهم محمّد بن محمّد بن عصام الكليني رضي للّه عنهم ، عن محمّد بن يعقوب ۵ .
فهو موافق لمبنى الشيخ الكليني رحمه الله وحدّد به معالم ذلك المبنى بما نقله عن الكليني ، ولم ينقل الصدوق في الفقيه إلّا هذه الرواية في بابها .
وظاهره العمل بها ؛ لأنّه لم يذكر لعنوان الباب غير هذه الرواية ، بل نقله لعنوان الباب هذه الرواية فقط تقويةً وتصحيحا منه لها وحكم بصحّتها ، وإلّا لا وجه لذكره ، وهو كما ترى صريح في أنّ الكافي كان عنده وأخذ الحديث منه ۶ .
والظاهر أنّ الصدوق رحمه الله لم يصرّح في الفقيه بمثل هذا التفرّد من النقل والبناء عليه إلّا في هذا المورد المتقدّم .
الطريق الثاني: ما يتبنّاه الصدوق رحمه الله وفق مباني الكليني رحمه الله لفظا ومعنىً ، ومثل هذا كثير ، وعلى نحو المثال:
1 ـ فقد روى الكليني رحمه الله في باب وجوب الصلاة:
عن زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السلام : فرض اللّه الصلاة ، وسَنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله على عشرةأوجه: صلاة السفر والحضر ، وصلاة الخوف على ثلاثة أوجه ، وصلاة كسوف الشمس والقمر ، وصلاة العيدين ، وصلاة الاستسقاء ، والصلاة على الميّت۷.
المستفاد من هذا التقسيم أنّ الكلّ فريضة ، وتتحصّل بتحصيل سببها من تلك الوجوه؛ السفر أو الحضر أو الخوف وغيرها .
وإن لم يكن في تعداد هذه الفروض صلاة ركعتي الطواف ، وهي ممّا لا شك من أفراد الصلاة الواجبة ، وعدم الذكر لها يتحقّق منه لاحتمالين:
الاحتمال الأوّل: كون المراد من التقسيم ما شرع من الصلاة لأجل نفس الصلاة ، لا أنّها تابعة لطوافٍ أو غيره ۸ .
الاحتمال الثاني: إنّ التقسيم مطلق ، وصلاة الطواف أو غيرها قيّدتها النصوص من آيةٍ أو روايةٍ بشأنها ۹ .
وقد تبنّى الصدوق رحمه الله هذا التقسيم ، وروى هذه الرواية بمثلها في الفقيه ۱۰ وبإسنادٍ غير إسناد الكليني ، بل بإسناده عن زرارة . ورواها في الخصال عن أبيه ، عن سعد بن عبد اللّه ، عن يعقوب بن يزيد ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز بمثل نصّ الكليني .
2 ـ ما رواه الكليني رحمه الله بسندٍ صحيح عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حرير (عن زرارة) ، عن محمّد بن مسلم ، قال:
قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل بعث بزكاة ماله لتُقسَم ، فضاعت ، هل عليه ضمانها حتّى تُقسَم ؟ فقال: إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها، فهو لها ضامن حتّى يدفعها ، وإن لم يجد لها من يدفعها إليه فبعث بها إلى أهلها ، فليس عليه ضمان؛ لأنّها قد خرجت من يده ، وكذلك الوصي الذي يُوصى إليه ، يكون ضامنا لما دُفع إليه إذا وجد ربَّهالذي أمر بدفعه إليه ، فإن لم يجد فليس عليه ضمان۱۱.
ولا ريب ولا إشكال في الضمان إذا كان التأخير لغير عذر ، وقد استدلّ الفقهاء بهذه الرواية على الضمان في الأوّل وعدمه في الثاني ۱۲ .
ومثل هذه الرواية تبنّاها الصدوق ۱۳ رحمه الله لفظا ومعنىً وحكما في إحدى مروياته عن محمّد بن مسلم .
3 ـ ما رواه الصدوق رحمه الله مثل الحديث المروي في الكافي مع اختلاف السند ، فقد روى بشأن العمرة في أشهر الحجّ عن معاوية بن عمّار ، قال:
سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ أفرد الحجّ ، هل له أن يعتمر بعد الحجّ ؟ فقال: نعم إذا أمكن الموسى من رأسه فحسن۱۴.
وفي الكافي عن عبد الرحمن ، عن أبي عبد اللّه مثله ۱۵ .
فالرواية تحدّد أنّ مَن حجّ حجّ الإفراد أتى بالعمرة بعد الحلق تمكين الموسى من رأسه ، وفيه إشارة إلى جواز التأخير إلى بعد أيّام التشريق ؛ لما روي أنّ الإقامة بمعنى أفضل ، واختلافها عمّن فاتته عمرة التمتّع وأقام إلى هلال محرّم ، اعتمر وأجزأت عنه وكانت مكان عمرة المتعة .
وغيرها من الروايات التي ينقلها الصدوق بالمثل ۱۶ .
الطريق الثالث: ما يتبنّاه الصدوق رحمه الله وفق مباني الكليني رحمه الله وينقله بالمعنى فقط دون النصّ لفظا . وهذا الوجه في التبنّي يحصل في كتب الصدوق رحمه اللهبكثرة ، خصوصا بعد الالتفات إلى ما صرّح به في مقدّمة الفقيه بأنّ إعداده لهذا الكتاب كتاب فتيا ، وعادة كتب الفتيا أنّها تترجم نصوص أهل البيت عليه السلام إلى معاني تلك النصوص ، فمن ذلك:
1 ـ ما رواه الصدوق في معرض حديثه عن أحكام كفّارات صيد المحرم ، فقد روى عن حفص بن البختري ۱۷ ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، فيمن أصاب صيدا في الحرم ، قال:
إن كان مستوي الجناح فليُخلِّ عنه ، وإن كان غير مستوٍ نتفه وأطعمه وأسقاه ، فإذا استوى جناحاه خلّى عنه۱۸.
والمقصود من النتف: هو نزع الريش ، والغرض منه أن يسرع نبات الريش ، وظاهر «فلينتف» الوجوب .
هذا التبنّي من القول والمروي من الصدوق مأخوذ بالمعنى عمّا رواه الكليني رحمه الله ، كما جاء في صحيحه داوود بن فرقد ، قال:
كنّا عند أبي عبد اللّه عليه السلام بمكّة ، وداوود بن علي بها حاكم مكّة ، فقال لي أبو عبد اللّه عليه السلام : قال لي داوود بن علي: ما تقول يا أبا عبد اللّه في قَماريّ اصطدناها وقصّيناها؟ فقلت تُنتف وتُعلف ، فإذا استوت خُلّي سبيلها۱۹.
وأصل «قصّيناها»: قصصناها ، أُبدلت الثانية ياءً .
فالحكم من حيث النتيجة واحد ، وإن اختلفت كلمات الروايتين .
2 ـ روى الصدوق في باب آداب الصائم ما ينقض صومه وما لا ينقضه ، عن منصور بن يونس ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام :
إنّ الكذب على اللّه وعلى الأئمّة يُفطّر الصائم۲۰.
والظاهر أنّه منقول بالمعنى ، فإنّ الحديث المروي عن الكليني رحمه الله هكذا: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: الكذبة تنقض الوضوء وتُفطّر الصائم ، قال: قلت: هلكنا ، قال: ليس حيث تذهب ، إنّما ذلك الكذب على اللّه عزّ وجلّ وعلى رسوله وعلى الأئمّة عليهم السلام »۲۱.
وقد اختلف الفقهاء في فساد الصوم بالكذب على اللّه وعلى رسوله صلى الله عليه و آله وعلى الأئمّة عليهم السلام ، بعد اتّفاقهم على أنّ غيره من أنواع الكذب لا يفسد الصوم وإن كان مُحرّماً .
3 ـ ما رواه الصدوق في شهود رؤية الهلال: «قال علي عليه السلام : لا تُقبل شهادة النساء في رؤية الهلال ، إلّا شهادة رجلين عدلين»۲۲.
وذكر العلّامة وجها في عدم الاعتبار: «ولأنّها عبادة، فاعتُبر عددها بأعمّ الشهادات وقوعا ، اعتبار بالأعمّ الأغلب» ۲۳ .
ورواه الكليني عن حمّاد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال: «قال علي عليه السلام : لا تجوز شهادة النساء في الهلال ، ولا تجوز إلّا شهادة رجلين عدلين»۲۴.
وعلّل السيّد المرتضى عدم الجواز بما انفردت به الإمامية في هذه الشهادة بعد الإجماع ؛ لأنّ الصيام من الفروض تأكّده ، فعدم جواز قبول الشهادة تأكيدا وتعظيما ، فإنّ شهادتهنّ لم تسقط إلّا من حيث التغليظ ۲۵ .
4 ـ مرسلة الصدوق في الحجّ ، روى:
إنّ الحاجّ مِن حين يخرج من منزله حتّى يرجع ، بمنزلة الطائف بالكعبة۲۶.
ففيه إشارة إلى أخذه من حيث المعنى إلى ما ذكره الكليني رحمه الله في حسنه زياد القندي ، قال:
قلت لأبي الحسن عليه السلام : جُعلت فداك ، إنّي أكون في المسجد الحرام فأنظر إلى الناس يطوفون بالبيت وأنا قاعد ، فاغتمّ لذلك ، فقال: يا زياد ، لا عليك ، فإنّ المؤمن إذا خرج من بيته يؤمّ الحجّ ، لا يزال في طوافٍ وسعي حتّى يرجع۲۷.
والمبنى الروائي للشيخين ـ المتوحّد من حيث المعنى ـ يبيّن ما للحاجّ من مكانة من حين يخرج من منزله حتّى يرجع ، فهو بمنزلة الطائف والساعي ، ولا يجري عليه القلم ما لم يأتِ بشيءٍ يبطل حجّة ، وقد ورد بهذا العديد من الروايات ۲۸ .

1.انظر: مشيخة الفقيه ضمن كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۴ ص ۱۵.

2.جامع الرواة للأردبيلي: ج ۲ ص ۵۴.

3.انظر: الإسترآبادي: ص ۴۱۵ ، الفائدة الثامنة.

4.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۴ باب الوصية ح ۵۵۲۷.

5.المصدر السابق: ص ۲۲۳.

6.مستدركات علم رجال للشاهرودي: ج ۱ ص ۵۵.

7.الكافي: ج ۱ باب ۱ من أبواب وجوب الصلاة ح ۱.

8.انظر: كشف اللثام للفاضل الهندي: ج ۵ ص ۴۴۴.

9.انظر: فقه الصادق للروحاني: ج ۱۱ ص ۲۵۰.

10.انظر: كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۱ باب ۹ من أبواب الصلاة ح ۲۱.

11.الكافي: ج ۱ باب الزكاة تُبعث من بلدٍ إلى بلد ح ۱.

12.انظر: الحدائق الناضرة للبحراني: ج ۱۲ ص ۲۴۰.

13.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۲ ح ۱۶۱۷.

14.المصدر السابق: ح ۲۹۴.

15.الكافي: ج ۴ باب الشهور التي تستحبّ فيها العمرة ح ۷.

16.انظر: كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۲ في آداب الصائم ح ۲۸۳ و ۲۸۴ و ۲۸۹ ، وعقد الإحرام ح ۹۴۰ و ۹۴۱ و ۹۴۲ ، وغيرها الكثير الكثير في كلّ أبواب الفقه وغيرها.

17.وثّقه النجاشي وقال عنه: مولىً بغدادي أصله كوفي ثقة ، روى عن أبي عبد اللّه وأبي الحسن عليهماالسلام. انظر: رجال النجاشي: ص ۱۳۴.

18.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۲ ح ۲۳۵۴.

19.الكافي: ج ۴ باب صيد الحرم وما تجب فيه الكفّارة ح ۲۲.

20.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۲ باب آداب الصائم ح ۱۸۵۴.

21.الكافي: ج ۴ باب آداب الصائم ح ۱۰.

22.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۲ ص ۱۲۵ ح ۱۹۱۴.

23.تذكرة الفقهاء للعلّامة الحلّي: ج ۶ ص ۱۲۸.

24.الكافي: ج ۴ باب الأهلّة والشهادة ح ۴.

25.انظر: الانتصار للسيّد المرتضى: ص ۱۸۴.

26.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۲ ح ۲۲۰۴.

27.الكافي: ج ۴ باب نوادر الطواف ح ۸.

28.انظر: جامع أحاديث الشيعة للبروجردي: ج ۱۰ ص ۱۷۰.

صفحه از 293