بحوث فقهية المباني الفقهية للمحدّثين في ضوء كتاب الكافي - صفحه 270

المورد الثاني: المباني المتوافقة والمخالفة للمشهور .

وهي تلك المباني التي جاءت منسجمة مع ما نقله الصدوق من الكتب ومن ضمنها الكافي ، والتي حدّد فيها مبنى حُكمه على نوع من أنواع الأحكام الشرعية ، إلّا أنّها خالفت المشهور:
1 ـ فقد نقل الصدوق في باب نادر وتابع إلى صيام شهر رمضان ، وفي ذلك الباب جملة من الروايات نقلها من عدّة كتب وعدّة طرق تكشف عن مبناه في إثبات عدة أيّام شهر رمضان المبارك ، فقد ذهب رحمه الله إلى ما حاصله: إنّ عدة شهر رمضان ثلاثون يوما ، لا ينقص أبدا ، عكس شهر شعبان الذي لا يتمّ أبدا .
وكان في جملة ما نقله من الروايات ، رواية عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمّد بن يعقوب ، عن شعيب ، عن أبيه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال:
قلت له: إنّ الناس يروون أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله ما صام من شهر رمضان تسعة وعشرين يوما أكثر ممّا صام ثلاثين ، قال: كذبوا ، ما صام رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلّا تامّا ، ولا تكون ناقصه ، إنّ اللّه تبارك وتعالى خلق السنة ثلاثمئة وستّين يوما ، وخلق السموات والأرض فيستّة أيّام ، فحجزها من ثلاثمئة وستّين يوما ، فالسنة ثلاثمئة وأربعة وخمسون يوما ، وشهر رمضان ثلاثون يوما؛ لقول اللّه عزّ وجلّ:«وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ»، والكامل تامّ ، وشوال تسعة وعشرون يوما ، وذو القعدة ثلاثون يوما؛ لقول اللّه عزّ وجلّ:«وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً»، فالشهر هكذا ، أي شهر تامّ وشهر ناقص ، وشهر رمضان لا ينقص أبدا ، وشعبان لا يتمّ أبدا۱
.

وقد رواه الكليني ۲ رحمه الله في النوادر مع اختلاف بسيط في اللفظ ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام .
وجهة المخالفة تكمن في أنّ الرواية التي ذكرها الكليني وصحّحها الصدوق ، بل بالغ الصدوق في جهة تصحيحها وأوجب العمل بها ، ولم يجعل طريقا لطرحها ، قد تعرّض لها الشيخ المفيد قدس سره في بعض رسائله وناقش سندها ، واعتبرها ومن مثلها من الروايات الشاذّة ولا يمكن الاستدلال بها، قال:
وأمّا ما تعلّق به أصحاب العَدد من أنّ شهر رمضان لا يكون أقلّ من ثلاثين يوما ، فهي أحاديث شاذّة قد طعن نُقّاد الآثار من الشيعة في سندها ، وهي مثبتة في كتب الصيام في أبواب النوادر ، والنوادر هي التي لا عمل عليها ۳ .
وبالإضافة إلى ما تقدّم فقد روى الصدوق أيضا أربعة روايات بهذا المضمون بطرق متعدّدة ، وعقّب بعد ذلك بقوله:
قال مصنّف هذا الكتاب: مَن خالف هذه الأخبار وذهب إلى الأخبار الموافقة للعامّة في ضدّها اتُّقِيَ كما يُتَّقي العامّة ، ولا يُكلّم إلّا بالتقيّة ، كائنا من كان ، إلّا أن يكون مسترشدا فيُرشد ويُبيّن له ، فإنّ البدعة إنّما تُماث وتُبطل بترك ذكرها ، ولا قوّة إلّا باللّه ۴ .
وهو بهذا يغلق على من يريد تصحيح هذه الأخبار بأحد أوجه الجمع، أو حملها على أحد موارد الاحتمالات المصحّحة .
وقد تصدّى العديد من الأكابر في نفي هذه الأمر أو إثباته ۵ ، وأنّ معظم الأصحاب على خلافه ، وردّوا تلك الأخبار إمّا بضعف السند ، أو بالشذوذ ومخالفة المحسوس والأخبار المستفيضة ، أو حملوها على معانٍ صحيحة .
وقد علّق صاحب كتاب الوافي ۶ على هذه الروايات وطرحها بعدم جواز العمل بها ، ولعدّة وجوه:
منها: لا يوجد شيء من هذه الأخبار في الأُصول المصنّفة ، وإنّما هي موجودة في الشواذّ من الأخبار .
ومنها: إنّ الروايات مختلفة الألفاظ مضطربة المعاني ؛ لروايتها تارةً عن أبي عبد اللّه عليه السلام بلا واسطة ، وأُخرى بواسطة ، وأُخرى يفتي بها الراوي من قبل نفسه فلا يسندها إلى أحد .
ومنها: إنّها أخبار آحاد ، وأخبار الآحاد لا يجوز الاعتراض بها على ظاهر القرآن والأخبار المتواترة .
ومنها: وجود بعض التعاليل الروائية كاشفة على أنّها غير صادرة من إمام هدى ، مثل اتّفاق تمام ذي القعدة في أيّام موسى عليه السلام ، لا يوجب تمامه في مستقبل الأوقات .
2 ـ روى الصدوق رحمه الله بشأن يوم النحر عن كُلَيب الأسدي ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال: سألته عن النحر ؟ فقال: أمّا بمنىً فثلاثة أيّام ، وأمّا في البلدان فيوم واحد۷.
وهو موافق لما رواه من حيث المبنى للكليني رحمه الله كما جاء ذلك في صحيحة جميل بن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام ، قال:
الأضحى يومان بعد يوم النحر ، ويوم واحد بالأمصار۸.
وهو خلاف ما ذهب إليه المشهور من أنّ الذبح في منىً أربعة ، وفي الأمصار ثلاثة ، ولكن يمكن تصحيح هذا القول وجعله موافقا للمشهور ، وذلك بمبنيين:
المبنى الأوّل: حمل أيّام النحر على عدم جواز الصوم فيها .
فقد ذكر الصدوق رحمه الله في الفقيه قبل رواية كُلَيب رواية عن عمّار الساباطي ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال:
سألته عن الأضحى بمنىً ؟ قال: أربعة أيّام . وعن الأضحى في سائر البلدان ؟ قال: ثلاثة أيّام... ۹ .
وقد عقّب الصدوق رحمه الله على هذين الحديثين بعدم المنافاة بينهما ، قائلاً:
قال مصنّف هذا الكتاب: هذان الحديثان متّفقان غير مختلفين ؛ وذلك أنّ خبر عمّار هو الأضحية وحدها ، وخبر كُلَيب للصوم وحده ، وتصديق ذلك ما رواه سيف بن عَميرة . . . .
وكذلك حمل الشيخ ۱۰ في التهذيب روايتي جميل وكُلَيب على أيّام النحر التي لا يجوز فيها الصوم .
المبنى الثاني: الحمل على الأفضلية أو على تأكيد الاستحباب .
وهو ما ذهب إليه صاحب مدارك الأحكام بعد استشكاله على الصوم ومصادفته مع أيّام التشريق ، فقال:
ومقتضى هذا الحمل عدم تحريم الصوم يوم الثالث من أيّام التشريق ، وهو مشكل ؛ لأنّه مخالف لما أجمع عليه الأصحاب ودلّت عليه أخبارهم ، والأجود حمل روايتي محمّد بن مسلم وكُلَيب الأسدي على أنّ الأفضل ذبح الأضحية في الأمصار في يوم النحر وفي منىً ، أو في اليومين الأوليين من أيّام التشريق ۱۱ .

1.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۲ باب النوادر ح ۲۰۴۳.

2.انظر: الكافي: ج ۱ باب نادر من أبواب الصوم ح ۱.

3.جوابات أهل الموصل للمفيد: ص ۱۶.

4.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۲ ص ۱۷۰.

5.انظر: مرآة العقول للمجلسي: ج ۳ ص ۲۱۸.

6.انظر: الوافي للفيض الكاشاني: ص ۲۳۷ (الطبعة القديمة).

7.الكافي: ج ۴ باب أيّام النحر ح ۲.

8.المصدر السابق: ح ۳۰۳۷.

9.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۲ ص ۴۸۷.

10.انظر: تهذيب الأحكام للطوسي: ج ۵ ص ۲۰۳.

11.مدارك الأحكام للعاملي: ج ۸ ص ۸۴.

صفحه از 293