بحوث فقهية المباني الفقهية للمحدّثين في ضوء كتاب الكافي - صفحه 274

الفصل الثاني: المباني المتعارضة

وهي تلك المباني التي عارض فيها الشيخ الصدوق رحمه الله الكليني رحمه الله فيما نقله عنه أو عن غيره من الأحكام ، وهي من المباني الخلافية بين الشيخين ، ولكن فيما يبدو أنّها من المباني المحتملة الموافقة على غرار مبنى الكليني ، وقد استطاع الفقهاء أن يجدوا بين تلك الأخبار المتعارضة صيغة جمع بينها ، فيكون التعارض تعارضا بدويا غير مستقرّ . ومن أمثلة هذه الطائفة:
1 ـ الصلاة في المواطن الأربعة (مكّة ، والمدينة ، والكوفة ، والحائر الحسيني) .
تعدّ مسألة صلاة المسافر بعد اجتماع الشرائط المذكورة فيها وجوب القصر ، وهذا الوجوب عزيمة لا رخصة ، وذلك بحذف أخيرتي الرباعية ، وعدّ هذا من ضروريات مذهب الإمامية ، وعليه أكثر العامّة ۱ .
إلّا أنّه ورد في الأخبار المستفيضة بالإتمام في الأماكن الأربعة (مكّة ، والمدينة ، والكوفة ، والحائر الحسيني) .
وأورد الشيخ الكليني عند تعرّضه في أحد أبواب إتمام الصلاة في الحرمين (مكّة والمدينة) ، فقد ذكر ثمان روايات تدلّ بظاهرها على:
أوّلاً: وجوب الإتمام ، وتدلّ عليه صحيحة إبراهيم بن شيبة ، قال:
كتبتُ إلى أبي جعفر عليه السلام أسأله عن إتمام الصلاة في الحرمين؟ فكتب إليَّ: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يحبّ إكثار الصلاة في الحرمين ، فأكثر فيها وأتمّ۲.
فإنّ ظاهر قوله «وأتمّ» وجوب الإتمام فيهما ، كما واستظهر المرتضى رحمه اللههذا الوجوب في جميع المواطن الأربعة ، بل تعدّى حتّى مشاهد الأئمّة عليهم السلام ، حيث قال: لا تقصير في مكّة ومسجد النبي صلى الله عليه و آله ومسجد الكوفة ومشاهد الأئمّة القائمين مقامه عليه السلا ۳ .
بل صحيحة علي بن مهزيار دلّت على رجحان الإتمام في جميع مكّة والمدينة ، وأنّه لا يشمل جميع الحرمين .
عن علي بن مهزيار قال:
كتبتُ إلى أبي جعفر عليه السلام : إنّ الرواية قد اختلفت عن آبائك في الإتمام والتقصير في الحرمين ، فمنها: بأن يتمّ الصلاة ولو واحدة ، ومنها: أن يقصر ما لم ينوِ مقام عشرة أيّام ، ولم أزل على الإتمام فيها إلى أن صدرنا في حجّنا في عامنا هذا ، فإنّ فقهاء أصحابنا أشاروا عليَّ بالتقصير ، إذ كنت لا أنوي مقام عشرة أيّام ، فصرت إلى التقصير ، وقد ضقت بذلك حتّى أعرف رأيك ؟
فكتب إليَّ بخطّه: قد علمت ـ يرحمك اللّه ـ فضل الصلاة في الحرمين على غيرهما ، فإنّي أحبّ لك إذا دخلتهما أن لا تقصر وتكثر فيها الصلاة.
فقلت له بعد ذلك بسنين مشافهةً: إنّي كتبت إليك بكذا وأجبتني بكذا ، فقال: نعم ، فقلنا: أيّ شيء تعني بالحرمين ؟ فقال: مكّة والمدينة۴.
وحدود مكّة والمدينة أوسع وأكبر من حدود حرميهما .
وذكر الشيخ الكليني رحمه الله في بابٍ مستقلّ من أبواب الزيارات بحدود الستّ روايات ، ظاهرها الإتمام في الأماكن الأربعة ، ومنها:
صحيحة إسماعيل بن جعفر ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال:
تتمّ الصلاة في أربعة مواطن: المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى الله عليه و آله ، ومسجد الكوفة ، وحرم الحسين عليه السلام۵.
فالرواية ظاهره من صيغة الأمر الدالّة على الوجوب ، بغضّ النظر عن سعة حدود تلك الأمكنة وضيقها .
ثانيا: وجوب التقصير: أي مساواة الأماكن الأربعة لغيرها من الأماكن في وجوب التقصير ، ما لم ينقطع سفره بأحد قواطع السفر المذكورة .
وإلى هذا ذهب الشيخ الصدوق حيث عقّب رحمه الله بعد المرسلة التي ذكرها في الفقيه عن الإمام الصادق عليه السلام :
من الأمر المذخور إتمام الصلاة في أربعة مواطن: مكّة ، والمدينة ، ومسجد الكوفة ، وحائر الحسين عليه السلام۶.
قال مصنّف هذا الكتاب: يعني بذلك أن يعزم على مقام عشرة أيّام في هذه المواطن حتّى يتمّ ، وتصديق ذلك ما رواه محمّد بن إسماعيل ، عن بزيع ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، قال:
سألته عن الصلاة بمكّة والمدينة ، يقصر أو يتمّ ؟ قال: قصِّر ، ما لم تعزم على مُقام عشرة أيّام۷.
فالرواية دالّة على عدم وجوب التمام حتّى يعزم المسافر على الإقامة في ذلك المكان .
بل ذكر في علل الشرائع ، أنّ مكّة والمدينة كسائر البلدان ، كما في صحيحة معاوية بن وهب ، قال:
قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : مكّة والمدينة كسائر البلدان ؟ قال: نعم ، قلت: قد روى عنك بعض أصحابنا أنّك قلت لهم أتمّو بالمدينة بخمس ، فقال: إنّ أصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون فيخرجون من المسجد عند الصلاة ، فكرهت ذلك لهم فلذلك قلته۸.
وتبع الشيخ الصدوق على هذا المبنى القاضي ابن البَرّاج على ما حُكي عنه ۹ ، بل الشيخ في الاستبصار والتهذيب ۱۰ ، على احتمال ، وذكر بحر العلوم في مصابيحه أنّه المشهور بين القدماء ۱۱ .
ثالثا: التخيير بين التقصير والإتمام .
وتدلّ عليه رواية الحسين بن المختار عن أبي إبراهيم عليه السلام ، قال:
قلت له: إنّا إذا دخلنا مكّة والمدينة نتمّ أو نقصر ؟ قال: إن قصرت فذاك ، وإن أتممت فهو خيرٌ يُزاد۱۲.
فالترديد شاهد حال على التخيير في تلك الأماكن ، وهذا مبنى الأكثر من الفقهاء بما فيهم الكليني ، بل ادُّعي عليه الإجماع كما عن العلّامة في التذكرة ۱۳ ، والشهيد الأوّل في الذكرى ۱۴ ، وفي الجواهر:
فإنّي لا أجد فيه خلافا إلّا من ظاهر الصدوق أو صريحه ۱۵ .
وعلى هذا الرأي فقهاؤنا المعاصرون ۱۶ .
فلمّا كانت الأقوال متعدّدة ، هل يمكن توجيه مبنى الصدوق رحمه الله على ما يوافق مبنى الكليني رحمه الله على القول بوجوب القصر ، على ما يوافق المشهور والكليني في قولٍ آخر ؟
فالكلام في موردين:
المورد الأوّل: توجيه مبنى الصدوق مع مبنى القول بوجوب الإتمام ، وذلك بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل: الجمع العرفي:
لمّا كان مبنى الصدوق وجوب التقصير وشأنية تلك الأماكن شأنية غيرها من مواطن السفر ، على عكس مبنى الكليني من وجوب الإتمام في الأماكن الأربعة ، وكلّ اعتمد ما يؤيّد قوله بطائفة من الأخبار ، فكانت تلك الأخبار متعارضة ، ويمكن إيجاد وجه جمع بينهما ، بل أوجب النراقي رحمه الله وجوب الجمع حيث قال:
إنّه تعارض الفريقان من الأخبار ، فيجب الجمع بينهما بالحمل على التخيير ، إمّا لأنّه المرجع عند التعارض وعدم الترجيح ، أو لشهادة الأخبار ۱۷ .
ومن الأخبار التي تصلح أن تكون شاهدا ما ذُكر في الكافي ، كرواية علي بن يقطين عن التقصير بمكّة فقال:
أتِمّ وليس بواجب ، إلّا أنّي أُحبّ لك ما أُحبّ لنفسي۱۸.
وراوية ابن المختار:
إنا إذا دخلنا مكّة والمدينة نتمّ أو نقصر ؟ قال: إن قَصَرت فذاك ، وإن أتممت فهو خيرٌ تزداد۱۹.
الوجه الثاني: يمكن ترجيح أدلّة القول بالتقصير على ما ذهب إليه الشيخ الصدوق رحمه الله ، وذلك لعدّة اعتبارات:
الاعتبار الأوّل: الرجوع إلى عمومات صلاة القصر للمسافر .
الاعتبار الثاني: تقديم الأخصّ على الأعمّ ؛ وذلك لأنّ الروايات التي ذكرها الكليني رحمه الله دالّة بعمومها على إتمام الصلاة ، سواء قصد الإقامة أم لم يقصدها ، عكس مرويات الصدوق رحمه الله المحمولة على الإتمام بنيّة قصد الإقامة عشرة أيّام .
الاعتبار الثالث: الصلاة مع الإتمام مبني على التقيّة موافقةً للعامّة.
ويمكن مناقشة هذا الوجه بكلّ اعتباراته ، وذلك من خلال:
ما يردّ الاعتبار الأوّل: إنّ الرجوع بعد تعارض روايات الشيخ الكليني الدالّة على تعيين الإتمام ، ومرويات صاحب الفقيه إلى تعيين القصر إلى العمومات الدالّة على تعيين القصر ، إنّما يُرجع إليه إذا لم يكن هناك مرجع فوقاني يُرجع إليه ، وفي هذه المسألة يمكن الرجوع ، هو ما صرّحت به الروايات بالتخيير ، نحو صحيحة علي بن يقطين ، قال:
سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن التقصير بمكّة ؟ فقال: أتِمّ وليس بواجب ، إلّا أنّي أُحبّ لك ما أُحبّ لنفسي۲۰.
ما يردّ الاعتبار الثاني: إنّ تقديم الخاصّ على العامّ غير جارٍ هنا ؛ وذلك لورود عدد من الروايات والتي فيها الأمر بالتمام بمجرّد المرور في البلد ، كما في رواية قائد الحنّاط عن أبي الحسن الماضي عليه السلام ، قال:
سألته عن الصلاة في الحرمين ؟ فقال: أتِمّ ولو مررت به مارّا۲۱.
أو الروايات الدالّة على الإتمام بيوم الدخول ، كما في صحيحه مسمع عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال:
قال لي: إذا دخلت مكّة فأتمّ يوم تدخل۲۲.
أو بمجرّد صلاة واحدة ، كما في صحيحة عثمان بن عيسى ، قال:
سألت أبا الحسن عليه السلام عن إتمام الصلاة والصيام في الحرمين ؟ فقال: أتمّها ولو صلاةً واحدةً۲۳.
فيكون هذا الاعتبار مردود من جهة عدم صلاحية هذا التخصيص حتّى يكون حاكما على أدلّة التقديم .
ما يردّ الاعتبار الثالث: القول بالتقيّة موافقةً للعامّة ، لا يصحّ الركون إليه في هذا المجال ؛ لأنّ من خالف الإمامية من فقهاء الجمهور وعند تعرّضهم لأحكام صلاة المسافر على قولين ، من دون أن يفرّقوا بين مكانٍ وآخر ، فاختار أبو حنيفة تعيين القصر ، والشافعي وجمع من أصحابه ـ منهم عثمان وعائشة ـ ثبوت التخيير بين القصر والإتمام ، ولم يفت أحد منهم بتعيين الإتمام مطلقا حتّى في الحرمين ۲۴ .
وعلى هذا لا تكون أخبار تعيين الإتمام موافقة للعامّة ، بل أصل الجواز بحسب ما تقدّم من أدلّة الشيخ الكليني رحمه اللهومن وافقه .
فإذن ، لم تثبت الموافقة للعامّة على نحو الموجبة الكلّية .
المورد الثاني: توجيه مبنى الصدوق رحمه الله مع القول بحمل الأخبار الدالّة على الأفضلية أو التخيير ، وذلك بحمل ما ذهب إليه الشيخ الصدوق القول بالقصر على التقيّة جميعا، بين ما ذكره من أخبار وبين أخبار الإتمام المحمولة على الأفضلية ، وبين أخبار التخيير ، وذلك من خلال ۲۵ :
أوّلاً: العامّة لا ترى خصوصية لهذه الأماكن .
ثانيا: الروايات الصريحة والدالّة على أنّ الصلاة في تلك الأماكن بالتمام من الأمر المذخور في علم اللّه المخزون ، وهو خاصّ بالشيعة ، ومن يستكشف أنّ الأمر بالقصر على خلاف ذلك فيكون للتقيّة لا محالة .
ثالثا: ما استدلّ به الشيخ الصدوق من رواية ابن وهب ، قال:
قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : مكّة والمدينة كسائر البلدان ؟ قال: نعم ، قلت: قد روى عنك بعض أصحابنا أنّك قلت لهم أتمّو بالمدينة بخمس ، فقال: إنّ أصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون فيخرجون من المسجد عند الصلاة، فكرهت ذلك لهم فلذلك قلته۲۶.
فالتقيّة ظاهرة في الرواية، وذلك من خلال:
أ . كيف يأمر الإمام عليه السلام بالإتيان بغير المأمور به .
ب . إنّ التمام مشروع في حدّ نفسه ، وإلّا إذا لم يكن مشروعا ولا صحيحا ، فهل مجرّد الخروج والناس يستقبلونهم من مسوغات التمام ؟ فيكون نفس هذا البيان شاهد صدق على استناد الأمر بالقصر إلى التقيّة ۲۷ .
وبهذا يمكن الجمع بين المبنيين (وجوب القصر والأخبار الدالّة على الترجيح والأفضلية) ، دون الجمع بين أخبار وجوب القصر وأخبار وجوب الإتمام .
2 ـ ومن جملة ما ذكره الصدوق من أخبار متعارضة مع مبنى الكليني ، ما رواه في باب الصرف ووجوهه عن عدم التقابض في المجلس في بيع المال ، فعن عمّار الساباطي ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال:
قلت له: الرجل يبيع الدراهم بالدنانير نسيئة ؟ قال: لا بأس۲۸.
فالرواية مخالفة للمشهور من اشتراط التقابض في المجلس بشأن بيع النقدين ، وهي معارضة لمبنى الكليني ، لما رواه في صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام ، قال:
قال أمير المؤمنين عليه السلام : لا يبتاع رجل فضّة بفضّة إلّا يدا بيد ، ولا يبتاع ذهبا بفضّة إلّا يدا بيد۲۹.
فالروايتان صريحتان بالتعارض ، إلّا أنّ الفقهاء وجّهوا رواية الصدوق وجعلوها موافقة لمبنى الكليني من عدّة وجوه ، منها:
الوجه الأوّل: ذكره بعض المحقّقين من حمل خبر عمّار الساباطي على ما إذا كان أحد النقدين في ذمّة أحدهما نسيئة فوقع البيع عليه بعد الحلول بنقدٍ آخر ، فيكون في ذمّته المال بمنزلة الوكيل في القبض ، فقوله: «نسيئة» ليس قيدا للبيع حتّى يكون خلاف المشهور وخلاف الإجماع ، بل إمّا قيد للدنانير ويكون قوله «يبيع» بمعنى يشتري ، وإمّا قيد للدراهم و «يبيع» على معناه الظاهر ، وعلى التقديرين يكون موافقا لفتوى الأصحاب ۳۰ .
الوجه الثاني: ضعف طريق الشيخ إلى عمّار الساباطي ، فقد ضعّفه بعض علماء الرجال ۳۱ ، وذلك لفساد مذهبه وأنّه فطحي ، وإن كان موثّقا ، والخبر قد تفرّد به وحده . غير أنّ الشيخ الطوسي رحمه الله لم يقبل الطعن عليه بهذه الطريقة ، فهو ثقة في النقل لا طعن عليه ، والاحتياط ينبغي أن لا يُترك مهما أمكن ۳۲ .
الوجه الثالث: الحمل على التقيّة وأشار إليه المحقّق البحراني ۳۳ .
3 ـ في الرهن .
الصدوق في باب الرهن حكم ـ من خلال ما رواه ـ بأنّ القول قول المرتهن عند الاختلاف بالرهن ، وذكر لفتواه ما رواه عن إسماعيل بن مسلم ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عليه السلام ، قال:
قال علي عليه السلام : في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن ، فقال الراهن: هو بكذا وكذا ، وقال المرتهن: هو بأكثر ، أنّه يُصدّق قول المرتهن حتّى يحيط بالثمن؛ لأنّه أمين۳۴.
فيكون القول قول القابض ، وعلى المالك البيّنة ، وإليه أشار الصدوق في المقنع ۳۵ ، وهي معارضة لمبنى الكليني لما رواه في صحيحة محمّد بن مسلم:
عن أبي جعفر عليه السلام ، في رجلٍ يرهن عند صاحبه رهنا لابيّنة بينهما فيه ، فادّعى الذي عنده الرهن أنّه بألف ، فقال صاحب الرهن: إنّما هو بمئة ، قال: البيّنة على الذي عنده الرهن، وإن لم يكن بيّنة فعلى الراهن اليمين۳۶.
ووجّه صاحب المسالك ۳۷ مبنى الكليني رحمه الله بأنّه الأقوى ، بعد أن قال: إنّ ذهاب الأكثر إلى هذا القول ، معلّلاً ذلك بعدّة أُمور: بأصالة عدم الزيادة ، وبراءة ذمّة الراهن ، ولأنّه منكر . واستدلّ العاملي بعد ذلك بصحيحة محمّد بن مسلم في الكافي المتقدّمة .
أو الحمل على التقيّة ۳۸ ؛ لأنّه أحد قولي العامّة ، وإن كان خلاف المشهور بينهم . وكيف كان ، فإنّ رواية الصدوق قاصرة عن معارضتها بأخبار المشهور .
4 ـ مبادلة الدراهم المغشوشة بالجيّدة .
روى الصدوق رحمه الله في جواز مبادلة الدراهم المغشوشة بالجيّدة ، عن يعقوب بن شعيب عندما سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقرض الدراهم الغلّة المغشوشة فيأخذ منه الدراهم الطازَجيّة الجيّدة، طيّبةً بها نفسه ؟ فقال: «لا بأس»۳۹.
ويُفهم من كلمة «فيأخذ منه» الشرط بالأخذ .
وقد رفض الشيخ في النهاية ۴۰ ، وأبو الصلاح وجماعة إلى جواز اشتراط الصحيح عن الغلّة ، واحتجّ الشيخ بهذا الخبر وغيره .
وذهب ابن إدريس ۴۱ وجماعة من المتأخّرين منهم العلّامة ۴۲ إلى عدم جوازه ، واحتجّ بما رواه الكليني عن القمّي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عُمير ، عن حمّاد ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال:
إذا أقرضت الدراهم ثمّ أتاك بخير منها ، فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط۴۳.
حيث يدلّ مفهوم الشرط على عدم الجواز مع الشرط ، وحمل هذا الخبر على عدم الاشتراط ، وهو الظاهر ، فيكون مبنى الصدوق موافقا للكليني .
5 ـ العمرة المفردة إحلالها ونسكها .
ما رواه الصدوق في إهلال العمرة المبتولة ، وإحلالها ونسكها ، عن معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال:
إذا دخل المعتمر مكّة من غير تمتّع وطاف بالبيت وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام وسعى بين الصفا والمروة ، فليلحق بأهله إن شاء۴۴.
فالرواية لم تذكر وجوب طواف النساء ، وظاهرها موافق إلى عدم وجوب الطواف في العمرة المفردة ، وهو الظاهر من كلام المصنّف .
ولكن على مبنى الكليني رحمه الله وجوب طواف النساء ، ولما رواه في الحسن كالصحيح ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، عن إسماعيل بن رياح ، عن أبي الحسن عليه السلام قال:
سألته عن مفرد العمرة ، عليه طواف النساء ؟ قال: نعم ۴۵
ونقله الشيخ في الاستبصار ۴۶ ، وهو المشهور بل الإجماع على ما نقل في المنتهى .
ويمكن توجيه مبنى الصدوق رحمه الله وجعله موافقاً للكليني فيما قارب بينهما المجلسي بقوله:
لم يذكر فيه التقصير وطواف النساء ، لا يدلّ على عدم الوجوب ؛ لأنّهما للإحلال وليسا من الأركان ، والنسك مع وجودهما في أخبار أُخر والمثبت مقدّم . إلى آخر ما قال . . . ۴۷ .
6 ـ الوديعة .
في هذه المسألة ينقل الصدوق رواية عن الكليني بشأن من مات وعليه دين بقدر ما تركه وله صغار ، يقول رحمه الله:
روى محمّد بن يعقوب الكليني رضي اللّه عنه ، عن حميد بن زياد ، عن ابن سماعة ، عن سليمان بن داوود ، عن علي بن حمزه ، عن أبي الحسن عليه السلام ، قال: قلت له: إنّ رجلاً من مواليك مات وترك صغارا ، وترك شيئا وعليه دين ، وليس يعلم به الغرماء ، فإن قضى لغرمائه بقي وُلدُه ليس لهم شيء ، فقال: انفقه على وُلدِه۴۸.
وهذه الرواية موجودة في كتب الكليني ۴۹ والصدوق ، وقد عارضاها بروايتين مبثوثة في نفس الباب ، وبغضّ النظر عن ضعف هذه الرواية بعلي بن حمزه البطائني الواقفي ، عورضت ب :
أوّلاً: ما دلّت عليه رواية ابن البزنطي . فقد ذكر الصدوق رحمه الله في باب الرجل يموت وعليه دين وله عيال ، عن ابن أبي نصر البزنطي بإسناده ، أنّه:
سُئل عن رجل يموت ويترك عيالاً وعليه دين فينفق عليهم من ماله ؟ قال: إن استيقن أنّ الذي عليه يحيط بجميع المال فلا ينفق عليهم ، وإن لم يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال۵۰.
أي الإنفاق من بعد عدم الاستيقان يكون من أصل المال دون الثلث ، وقيل بالمعروف من غير إسراف وتقتير .
وقد روى هذه الرواية أيضا الكليني في الصحيح ۵۱ .
ثانيا: ما دلّت عليه رواية ابن الحجّاج ، وفيها من المنافاة ، والتي عورضت برواية ابن البطائني ، فقد روى الصدوق عن ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال:
سألت أبا الحسن عليه السلام عمّا يقول الناس في الوصيّة بالثلث والربع عند موته ، أشيء صحيح معروف ؟ أم كيف صنع أبوك ؟ فقال: الثلث ذلك الذي صنع أبي عليه السلام۵۲.
ورواه الكليني ۵۳ في الصحيح ، وفعله عليه السلام ذلك لبيان الجواز، أو الورثة كانوا راضين .
وقال الشيخ رحمه الله في تعليقته على هذه الروايات الثلاث المتقدّمة ، بأنّ سند خبر ابن حمزه البطائني :
ضعيف ، فلا يجوز العدول إلى هذا الخبر من الخبرين المتقدّمين: البزنطي وابن الحجاج ؛ لأنّ خبر عبد الرحمن بن الحجّاج موافق للأُصول كلّها ، وذلك أنّه لا يصحّ أن ينفق على الورثة إلّا ممّا ورثوه ، وليس لهم ميراث إذا كان هناك دين على مال ؛ لأنّ اللّه تعالى قال: «مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أو دَيْنٍ»۵۴ ، فشرط في صحّة الميراث أن يكون بعد الدين ۵۵ .
ومع هذا ، فقد أوجد الفقهاء وجه جمع لرواية ابن حمزة البطائني المخالفة للمشهور ، وبين قول المشهور ، رفعوا به التنافي الوارد في الرواية والمعارضة لكتب الكافي والفقيه ، ومن جملة من يتصدّى لرفع التنافي:
أوّلاً: العلّامة التفريشي رحمه الله كما نقله بعض المحقّقين .
فقد أوجد وجها حمل به خبر البطائني على خصوص الواقعة ، فقال:
لعلّ هذا الحكم محمول على خصوص الواقعة ، كأن يكون عليه السلام يعرف الغرماء بأعيانهم ، ويعلم أنّ عندهم من الزكاة ، فيجعل تلك الديون في زكاتهم ، حيث إنّ الإمام أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ويعلم أنّ عليهم الخمس ، فيجعلها في خمسهم من حصّته ويتصدّق هو عليهم ، إلى غير ذلك ۵۶ .
ثانيا: المحدّث المجلسي رحمه الله .
وقد وجّه رواية البطائني بوجوهٍ أُخرى ، منها: ما حكاه المحقّق البحراني:
يمكن حمل الخبر على أنّه عليه السلام كان عالما بأنّه لا حقّ لأرباب الديون في خصوص تلك الواقعة ، أو أنّهم نواصب ، فأذن له التصرّف في مالهم ، أو على أنّهم كانوا بمعرض الضياع والتلف ، فكان يلزم الإنفاق عليهم من أيّ مالٍ تيسّر ۵۷ .
ومن هذا يُعلم بأنّ الأخبار لها وجوه أوّلاً ، وأنّ الإمام أعلم بزمانه وأحكامه وما يجري من أحكام طبقا للوقائع ، فتنقل الرواية من دون الواقعة فيشمّ منها التعارض والتنافي أو التزاحم .
وقد أظهر الصدوق رحمه الله هذا المعنى عندما علّق في الفقيه على نصّ لرواية نقلها عن الكافي . قال رحمه الله في الفقيه:
وفي كتاب محمّد بن يعقوب الكليني رحمه الله عن أحمد بن محمّد ، عن علي بن الحسن الميثمي ، عن أخويه محمّد وأحمد ، عن أبيهما ، عن داوود بن أبي يزيد ، عن بريد بن معاوية ، قال: إنّ رجلاً مات وأوصى إلى رجلين ، فقال أحدهما لصاحبه: خذ نصف ما ترك وأعطني النصف ممّا ترك ، فأبى عليه الآخر ، فسألوا أبا عبد اللّه عليه السلام عن ذلك: فقال: ذاك له۵۸.
فكان تعليقه رحمه الله على الرواية بقوله:
قال مصنّف هذا الكتاب: لست أفتي بهذا الحديث ، بل أفتي بما عندي بخطّ الحسن بن علي عليه السلام ، ولو صحّ الخبران جميعا ، لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق عليه السلام ؛ وذلك لأنّ الأخبار لها وجوه ومعانٍ ، وكلّ إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس ، وباللّه التوفيق ۵۹ .
وهناك الكثير من المباني التي ينظر إليها لأوّل وهله فيحسبها أنّها متعارضة بين مبنى الكليني والصدوق ، وقد أوجد الفقهاء وجه جمع بينهما على نحو ما تقدّم ، أو على نحو وجه الضرورة أو الكراهة أو الاستحباب أو التقيّة ، وغيرها من الوجوه التي تصلح أن تكون وجها جامعا .
والمتحصّل من هذا كلّه: إنّ الصدوق كثيرا ما يعوّل على أحكام توافقية مع الكليني ، إمّا بنقل مبنىً ليس له طريق إلّا الكليني ، أو مبانٍ أُخرى لها طرق متعدّدة ولكنّها في الأخير تجعل المسلك واحدا من حيث النصوص الموحّدة لفظا ومعنىً ، أو من حيث المعنى فقط ، وكما ظهر هذا في الفصل الأوّل ، أمّا الفصل الثاني فالأخبار المتعارضة تعارضها غير مستقرّ ، يمكن إيجاد صيغة جمع في توحيد المباني ، ومع هذا التوحّد تكون مباني الشيخين لهما من الأثر من حيث الأخذ بها والتقديم على غيرها من المباني عند تعارضهما مع غيرهما ، ولذا فقد رجّح الفقهاء عند التعارض ما ينقله الصدوق والكليني رحمه اللهعند معارضتهم للأخبار مع غيرهما من الفقهاء ، كما يظهر ذلك في أقوالهم:

1.انظر: بداية المجتهد لابن رشد القرطبي: ج ۱ ص ۱۶۶؛ أحكام القرآن للجصّاص: ج ۲ ص ۲۵۳.

2.الكافي: ج ۴ كتاب الحجّ باب إتمام الصلاة في الحرمين ح ۱.

3.م رسائل المرتضى: ج ۳ ص ۴۷.

4.الكافي: ج ۴ كتاب الحجّ باب إتمام الصلاة في الحرمين ح ۸ .

5.المصدر السابق باب الزيارات: ح ۵.

6.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۱ كتاب الصلاة باب الصلاة باب ۵۹ (الصلاة في السفر) ح ۱۹.

7.المصدر السابق: ح ۲۰.

8.علل الشرائع للصدوق باب ۲۱ نوادر علل الحجّ ح ۱۰.

9.انظر: المهذّب لابن البرّاج: ج ۱ ص ۱۰۹.

10.انظر: الاستبصار للطوسي: ج ۲ ص ۳۳۲؛ وتهذيب الأحكام: ج ۵ ص ۴۲۷.

11.مصابيح الظلام (مخطوط): ج ۱ ص ۱۳۵ في صلاة المسافر.

12.الكافي: ج ۳۴ باب إتمام الصلاة في الحرمين ح ۶.

13.انظر: التذكرة: ج ۱ ص ۲۱۷.

14.انظر: ذكرى الشيعة للشهيد الأوّل: ج ۲ ص ۱۱۴.

15.جواهر الكلام للجواهري: ج ۱۴ ص ۳۲۹.

16.انظر: منهاج الصالحين للسيستاني: ج ۱ ص ۳۰۵.

17.مستند الشيعة في أحكام الشريعة للنراقي: ج ۸ ص ۳۰۸.

18.المصدر السابق: ج ۴ باب ۹۵ من أبواب كتاب الحجّ ح ۳.

19.المصدر السابق: ح ۶.

20.الكافي: باب إتمام الصلاة في الحرمين ح ۳.

21.وسائل الشيعة للحرّ العاملي: ج ۸ باب ۲۵ من أبواب صلاة المسافر ح ۳۱.

22.المصدر السابق.

23.الكافي: ج ۴ باب إتمام الصلاة في الحرمين ح ۲.

24.انظر: الخلاف للطوسي: ج ۱ ص ۵۶۹ كتاب صلاة المسافر ، المسألة ۳۲۱؛ والتذكرة: ج ۱ ص ۱۸۶.

25.انظر: المستند في شرح العروة الوثقى للبروجردي (تقريرات لأبحاث السيّد الخوئي) كتاب الصلاة: ج ۲۰ ص ۴۰۱.

26.علل الشرائع: باب ۲۱ نوادر علل الحجّ ح ۱۰.

27.المستند في شرح العروة الوثقى: ج ۲ ص ۴۰۲.

28.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۳ ح ۴۰۳۹.

29.الكافي: ج ۵ ص ۲۵۱.

30.انظر: تعليقة علي أكبر غفّاري على الفقيه: ج ۳ ص ۲۸۸.

31.انظر: معجم رجال الحديث للخوئي: ج ۱۲ ص ۲۷۸.

32.انظر: الفهرست للطوسي: ص ۵۴.

33.الحدائق الناضرة: ج ۱۹ ص ۲۸۲.

34.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۳ ح ۴۱۷.

35.المقنع: ص ۱۲۹ باب الرهن والوديعة.

36.الكافي: ج ۵ ص ۲۳۷.

37.انظر: المسالك للشهيد الثاني: ج ۴ ص ۷۵.

38.انظر: الحدائق الناضرة: ج ۲ ص ۲۷۷.

39.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۴ ح ۴۰۳۱.

40.انظر: النهاية للطوسي: ج ۲ ص ۲۴؛ والكافي في الفقه للحلبي: ص ۳۳۲.

41.انظر: الوسيلة: ص ۲۷۳.

42.انظر: المختلف للعلّامة الحلّي: ج ۵ ص ۳۹۱.

43.الكافي: ج ۵ ص ۲۵۴.

44.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۲ ح ۲۹۴۴.

45.الكافي: باب قطع تلبية المحرم ح ۸.

46.انظر: الاستبصار: باب أنّ طواف النساء واجب ح ۱.

47.مرآة العقول: ج ۸ ص ۱۵۹.

48.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۴ ح ۵۵۶۴.

49.انظر: الكافي: ج ۷ باب الرجل يترك الشيء القليل ح ۳.

50.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۴ ح ۵۵۴۷.

51.الكافي: ج ۷ باب الرجل يترك الشيء القليل... ح ۱.

52.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۴ ح ۵۵۵۱.

53.الكافي: ج ۷ باب من أوصى إلى اثنين... ح ۱۱.

54.النساء: ۱۱.

55.تهذيب الأحكام: ج ۹ ص ۱۶۵.

56.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۴ ص ۲۳۶ ، تعليقة علي أكبر غفّاري.

57.الحدائق الناضرة: ج ۲۲ ص ۶۴۸.

58.كتاب من لا يحضره الفقيه: ج ۴ ح ۴۵۷۲.

59.المصدر السابق.

صفحه از 293