بلاء يوسف (ع) في الكافي و نجاته بآل محمّد (ع) مرويات الکافي (مستندا) - صفحه 203

ثانيا: مشهد الإلقاء في غيابة الجبّ.

ولحبّ يعقوب الشديد لابنه يوسف عليه السلام لمّا يشاهد فيه من الجمال البديع ويتفرّس فيه من صفاء السريرة، لا يفارقه ولا ساعة، فثقل ذلك على إخوته الكبار ، واشتدّ حسدهم له، حتّى اجتمعوا وتآمروا في أمره، فمن مشير على قتله ، ومن قائل : «اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ»۱ .
ولكن كان من بين الإخوة من هو أكثر ذكاءً وأرقّ عاطفةً ووجداناً ؛ لأنّه لم يرضَ بقتل يوسف أو إرساله إلى البقاع البعيدة التي لا يخشى عليه من الهلاك فيها ، فاقترح عليهم اقتراحاً ثالثاً ، وهو أن يُلقى في البئر بشكلٍ لا يصيبه مكروه ؛ لتمرّ قافلة فتأخذه معها ۲ ، وهكذا : «قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ»۳ .
وغيابة الجبّ هي غورة، وما غاب عين الناظر أو أظلم ، وأنّ غيابة الجبّ الذي غيّبت يوسف عليه السلام عن أبيه لم تستطع أن تغيّبه عن ذاكرته ، فكان يوسف حاضراً في عقل أبيه وفكره، وكأنّه كان تغيّباً مادّياً (جسدياً) من جانب، وحضورا متزايداً من جانبٍ آخر، وهكذا ظلّ شبح يوسف يقض مضاجع إخوته . وتغيّب يوسف كان نقلة هائلة غيّرت معالم حياته ، ثمّ حياة أُسرته ، ثمّ لتأسيس أُمّة تُدعى «بني إسرائيل» في المكان الجديد ، لقد نقل الجبّ يوسف من حياة البداوة وقساوتها إلى عالم المدينة ۴ .
وهكذا أُلقي بيوسف عليه السلام في الجبّ وهو ابن تسع سنين، وكان بين منزل يعقوب وبين مصر مسيرة اثني عشر يوماً ۵ ، وكان الإلقاء في الجبّ كما هو واضح من قول إخوته «القوه» يوحي بذلك الخوف البدائي لدى الإنسان، وهو الخشية من السقوط من منحدر ، وعملية الإلقاء هذه أو الجعل في غيابة الجبّ تعني الخشوع لقانون الثقل والجاذبية، والذي يشدّ الإنسان إلى الأرض إلى عمقها، إنّها تعني فيما تعنيه التغيّب ونزعة الإخفاء ، إنّه البحث من لدن إخوة يوسف إلى وجود كاتم للأسرار ومغيّب للكائن بأقلّ نسبة من الخسائر ۶ .
ولا بدّ لكلّ همّ وغمّ من فرج، فعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن الحسن بن عمّار الدهّان، عن مسمع، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال :
لمّا طرح إخوة يوسف في الجبّ، أتاه جبرئيل عليه السلام فدخل عليه، فقال : يا غلام ، ما تصنع ها هنا ؟ فقال : إخوتي ألقوني في الجبّ ، قال فتحبّ أن تخرج منه ؟ قال: ذاك إلى اللّه عزّ وجلّ، إن شاء أخرجني. قال : فقال : إنّ اللّه تعالى يقول لك ادعني بهذا الدعاء حتّى أخرجك من الجبّ ، فقال له : ومالدعاء ؟ فقال: قل اللّهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلّا أنت المنّان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرم، أن تصلّي علي محمّد وآل محمّد وآل محمّد، وأن تجعل ممّا أنا فيه فرجاً ومخرجاً. قال : ثمّ كان من قصّته ما ذكر اللّه في كتابه۷.
وحين رمى يوسف إخوتُهُ في الجبّ، خلعوا عنه قميصه وتركوه عارياً ، فنادى : اتركوا لي قميصي لأغطّى به بدني إذا بقيت حيّاً ، وليكون كفنى إذا متّ ، فقال له إخوته : اطلب من الشمس والقمر والكواكب الأحد عشر الذين رأيتهم في منامك ليكونوا مؤنسيك في هذه البئر، ويكسوك ويلبسوك ثوباً على بدنك! ۸ .
قد بلغ حزن يعقوب على يوسف حزن سبعين ثكلى ، ولمّا كان يوسف عليه السلام في السجن دخل عليه جبرئيل عليه السلام فقال : إنّ اللّه تعالى ابتلاك وابتلى أباك ، وإنّ اللّه ينجيك من هذا السجن ، فاسأل اللّه بحقّ محمّد وأهل بيته أن يخلّصك ممّا أنت فيه . فقال يوسف : اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ محمّد وأهل بيته إلّا عجّلت فرجي وأرحتني ممّا أنا فيه .
قال جبرئيل عليه السلام : فابشر أيّها الصدّيق، فإنّ اللّه تعالى أرسلني إليك بالبشارة بأنّه يخرجك من السجن إلى ثلاثة أيّام، ويملّكك مصر وأهلها، تخدمك أشرافها، ويجمع إليك إخوتك وأباك، فابشر أيّها الصدّيق إنّك صفي اللّه وابن صفيّه.
فلم يلبث يوسف عليه السلام إلّا تلك الليلة حتّى رأى الملك رؤيا أفزعته، فذكروا له يوسف عليه السلام۹.

وهكذا كانت غيابة الجبّ مكان انطلاق يوسف عليه السلام إلى عالم الشهرة، وليتحقّق من خلالها حلم الطفولة في أن يجد أبواه والأحد عشر كوكباً ساجدين، وأن يُمَكّن له في الأرض. وما كان ليوسف أن يصل إلى كلّ هذا دون أن تتجمّع الأحقاد والضغائن في قلوب إخوته فتلقي به في ذلك الجبّ المظلم ۱۰ .

1.انظر: الميزان في تفسير القرآن : ج ۱۱ ص ۲۵۸.

2.انظر: قصص القرآن مقتبس من تفسير الأمثل لآية اللّه العظمى ناصر مكارم الشيرازي: ۱۲۵.

3.يوسف: ۱۰.

4.انظر: المكان في القصص القرآني: ص ۵۸..

5.انظر: : قصص الأنبياء: ص ۱۲۳.

6.انظر: المكان في القصص القرآني: ص ۵۷.

7.الكافي : ج ۲ ص ۵۴۷.

8.انظر: قصص القرآن لمكارم الشيرازي: ص ۱۲۹.

9.قصص الأنبياء للراوندي: ص ۱۲۸.

10.انظر: المكان في القصص القرآني: ص ۵۸.

صفحه از 212