القصّة الرابعة : الفقير الغني
دخل رجل فقير ليس عليه ما يستره، على الرسول صلى الله عليه و آله وسلم وهو جالس بين أصحابه، وإلى جانبه رجل موسر، ما أن رأى الفقير بهذه الهيئة حتّى جمع أطراف ثيابه دون علم منه أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم يراقبه، فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: جمعت أذيالك، أخفت أن يمسّك من فقره شيء؟
قال: لا .
قال النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: أخفت أن يصيبه من غناك شيء؟
قال: لا .
فقال صلى الله عليه و آله وسلم: فما حملك على ما صنعت؟
قال : يا رسول اللّه ، إنّ لي قريناً شيطاناً، يزيّن لي كلّ قبيح، ويقبّح لي كلّ حسن.
واستطرد ـ الموسر ـ قائلاً: أعترف بأنّني مخطئ، وأنا مستعدّ أن أكفّر عن الخطأ الذي قمت به تجاهه، بأن أهب له نصف ما أملك.
فقال النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم للمعسر: أتقبل؟
قال: لا .
فقال له الرجل الموسر متعجّباً: ولم؟
قال : أخاف أن يداخلني ما داخلك من الكبر والتكبّر!
عند قراءة هذه القصّة في أُصول الكافي، نجد فيها المشاهد والصور التالية:
1 ـ المشهد الاُول والصورة الاُولى، مشهد وصورة اجتماع الفقراء مع الأغنياء، ورسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم يستقبل هاتين الطبقتين معاً دون تمييز، وهذا المشهد كما نجده في الصلاة جماعةً وفي الحجّ، نجده في الواقع العملي الحياتي.
2 ـ كما نجد في هذه الصورة مشهداً آخر نشازاً، هو تكبّر الغني الموسر الجالس إلى جنب رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم، وكيف أنّه لملم أطراف ثيابه عندما جلس الفقير إلى جنبه! وهو من بقايا الأخلاق الجاهلية التي تقيس حجم الإنسان وقيمته بما يملك من مال، وليس بالتقوى وبالعلم والأخلاق وما إلى ذلك من قيم للتفاضل وضعها الإسلام، عند التفاضل بين إنسانٍ وآخر!
3 ـ وفي مشهدٍ وصورة ثالثة نلاحظ كيف أنّ رسول اللّه قد اغتنم الفرصة عندما لمس حركة المسلم الغني وانكماشه على أخيه المسلم الفقير، فوجّه أسئلة محرجة إلى المسلم الغني الذي تكبّر على أخيه المسلم الفقير عندما جمع أطراف ثيابه!
4 ـ وفي مشهدٍ رابع من مشاهد هذه القصّة القصيرة المعبّرة والمصوّرة، نجد التأثّر الواضح الذي ظهر فوراً على الرجل المسلم الموسر، حيث أبدى استعداده للتكفير عن خطئه، وذلك بإعطاء نصف ثروته إلى المسلم الفقير المعسر، وهذا يذكّرنا بقول شهير يقول: إذا خرجت الكلمة من القلب دخلت إلى القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتعد الأذان.
5 ـ وفي مشهدٍ وصورة ختامية يوجّه رسول اللّه السؤال إلى المسلم المعسر الفقير، بعد أن استمع إلى العرض السخي الذي تقدّم به المسلم الموسر، يوجّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلمسؤاله إلى المسلم المعسر فيما إذا كان يقبل بهذا العرض أم لا؟ فيكون جوابه: كلّا! وفي وسط هذا التعجّب الذي بدى على وجه الرجل الموسر، يسأله المسلم الثري عن السبب، فيقول المسلم المعسر مجيباً: إنّي أخشى إذا امتلأت جيوبي بالمال أن أفقد توازني وأصبح متكبّراً مثلك؛ لأنّ المال في الواقع وفي نظر المنهج الإلهي لا يمثّل قيمة ذاتية ـ بحدّ ذاته ـ والإنسان مستخلف فيه، وقد جاء في كتاب اللّه : «وَ أَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ»۱ ، وأيضاً: «وَ ءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِىءَاتَكُمْ»۲ ، وقد سُئلت أعرابية بدوية ثرية عن المال الذي تملكه فقالت: «للّه في يدي»، وقد جاء على لسان أحد الشعراء قوله:
إنّ الشباب والفراغ والجدّةمفسدة للمرء أي مفسدة