قصص الكافي، دراسة و نقد - صفحه 142

القصّة الثانية : دعوة الحال

كانت الكوفة فيما مضى محطّ أنظار الدولة الإسلامية، وكانت أنظار المسلمين ـ ما عدا الشام ـ متوجّهة إليها، تنتظر ما يصدر فيها من أمر وتترقّب ما يتّخذ فيها من قرار.
ومن محاسن المصادفات أن التقى خارجها، ذات يوم من الأيّام مسلم وذمّي فسأل أحدهما الآخر عن الجهة التي يطلبها.
فقال المسلم: أنا أريد الكوفة.
وقال الذمّي: أمّا أنا فأريد مكاناً قريباً منها.
ثمّ اتّفقا أن يسيرا معاً ويقطعا طريقهما بالتحدّث إلى بعضهما.
ولانسجامهما في الحديث لم يشعرا بمضيّ الوقت ولا طول الطريق، إلى أن وصلا إلى مفترق الطرق، فتعجّب الذمّي لمّا رأى أنّ رفيقه المسلم يترك طريق الكوفة ويواصل السير معه، إذ ذاك سأله: ألست زعمت أنّك تريد الكوفة؟
قال المسلم: بلى.
قال له الذمّي: فلم عدلت إذاً؟ هذا ليس طريق الكوفة!
قال المسلم: أعلم ذلك، فمن حسن الصحبة عندنا أن يشيّع الرجل صاحبه هنيهة إذا ما فارقه، وبهذا أمرنا نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله وسلم.
فقال الذمّي: لا غرو أن يتبعه من تبعه لإخلاقة الحميدة وأفعاله الكريمة، وها أنا أُشهدك أنّي على دينك. ورجع معه، فلمّا عرف أنّه أمير المؤمنين عليه السلام ، أسلم.
1 ـ في المشهد الاُول من هذه القصّة نلاحظ أنّ عاصمة الدولة الإسلامية (الكوفة) كانت محطّ أقطار وبلدان الدولة الإسلامية الكبرى، ومحطّ أنظار كافّة المسلمين والمكوّنات الأُخرى للأُمّة.
2 ـ وفي المشهد الثاني نلاحظ من خلال هذه القصّة كيف تتعايش مكوّنات الأُمّة الدينية والقومية في الدولة الإسلامية بسلام، فهنا مسلم يرافق ذمّي في طريقٍ واحد، ويتجاذبان أطراف الحديث في أُمور شتّى، عملاً بالآية المباركة : «قُلْ يَـأَهْلَ الْكِتَـبِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَا نَعْبُدَ إِلَا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْـ?ا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ...»۱ .
3 ـ وأمّا في المشهد الثالث فإنّنا نلاحظ بوضوح كيف يعيش قائد الدولة الإسلامية العظمى حياة البساطة والتواضع وهو يسير مع مواطن من مواطني الدولة التي تضمّ كافّة المكوّنات الدينية والقومية وغيرهما.
4 ـ ونلمس في المشهد الرابع الأخلاق الإلهيّة المحمّدية العالية، حينما يقوم المسلم الحقّ الحقيقي الواقعي بتشييع صاحبه الذي كان يسير معه، حينما يصلان إلى مفترق الطرق، أي إنّ رفيقه المسلم يترك طريق الكوفة ويواصل السير معه.
5 ـ وفي المشهد الخامس نلاحظ كيف أنّ هذه الأخلاق تجذب هذا الذمّي إلى الإسلام بدون إكراه، وهي الأخلاق التي أخذها من أُستاذه وابن عمّه خاتم الأنبياء، الذي أثنى عليه الخالق العظيم في كتابه الكريم، عندما قال: «وَ إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»۲ ، فهل يلتزم المسلمون اليوم بما التزم به مسلمو الأمس ومنهم وفي مقدّمتهم المسلم الحقّ علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ حينما استطاع تحويل ذمّي معاهد إلى دين اللّه الأخير بالأخلاق الإلهيّة المحمّدية، التي كان يرفع إليه أُستاذه كلّ يوم علماً منها، كما كان يقول، وهذه هي دعوة الحال، ولا شك أنّ دعوة الحال أبلغ وأشدّ تأثيراً من دعوة المقال.

1.آل عمران : ۶۴ .

2.القلم : ۴ .

صفحه از 171