القصّة الثالثة : استقبال جاهلي!
عند مسيره الجهادي إلى الشام، مرّ الإمام عليّ عليه السلام بمدينة الأنبار التي كان يقطنها الفرس، فخرج لاستقباله دهاقينها وفلّاحوها، وترجّلوا والتفّوا حوله مزدحمين لشدّة استبشارهم بقدومه.
فقال عليه السلام : ما هذا الذي صنعتموه؟
قالوا: خلق منّا نعظّم به أُمراءنا.
فقال عليه السلام : واللّه ما ينتفع بهذا أُمراؤكم وإنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم، وتشقّون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان في النار ۱ .
عند قراءتنا لهذه القصّة ـ وهي من قصار القصص وهي أقرب إلى الحوار منه إلى القصّة ـ نلاحظ ما يلي:
1 ـ نجد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان لا يستقرّ في عاصمة دولته (الكوفة)، وإنّما يتجوّل في أنحاء البلاد التي يحكمها، ولو كانت بعيدة عن المركز، حسبما يقتضيه الواجب وتستدعيه المسؤولية، فيذهب إلى الأنبار (الرمادي حالياً) مروراً بالشام، وكان يواجه الفتن والحروب التي أُشعلت ضدّه، وكان يلاحقها ليخمدها، وكان يقول :
لأبقرنّ الباطل بقراً حتّى أُخرج الحقّ من خاصرته۲.
2 ـ كان الفرس يسكنون الأنبار إلى جنب إخوتهم العرب والقوميات الأُخرى، وهذا دليل واضح على احتضان حاكم الدولة عليّ بن أبي طالب لكلّ القوميات دون تفريق وتمييز بين أبنائها، فقد كان يصدر في تصرّفاته عن القرآن والسنّة، وهما لا يميّزان الناس من خلال المكوّن القومي، فقد روت لنا المصادر التاريخية الموثوقة أنّ أُخته أُمّ هاني بنت أبي طالب دخلت على أخيها خليفة المسلمين عليّ بن أبي طالب فدفع إليها عشرين درهماً، فسألت أُمّ هاني مولاتها العجمية قائلة:
كم دفع إليك أمير المؤمنين عليه السلام ؟
فقالت : عشرين درهماً .
فانصرفت مسخطة!
فقال لها عليّ عليه السلام : انصرفي ـ رحمك اللّه ـ ما وجدنا في كتاب اللّه فضلاً لإسماعيل على إسحاق ۳ .
3 ـ وفي هذه القصّة القصيرة نشهد طريقة الاستقبال الذي استقبل به عليّ عليه السلام من كافّة الطبقات (الدهاقين والفلّاحين) فرحاً واستبشاراً بقدومه على طريقة استقبال الحكّام الطغاة من قبل الناس، وهي طريقة جاهلية، وخلق جاهلي، لا يمتّ إلى الإسلام بصلة من قريبٍ أو بعيد! فقد كان الناس أيّام الطاغية ۴ ، حينما يحلّ بمكان، يركض وراءه الناس وهم يردّدون: (هلة بيك هلة، وبجيّتك هلة) ! لكن عليّ الحقّ والقرآن والإسلام، يرفض ويستنكر هذه الطريقة الجاهلية في الاستقبال، فيسأل المستقبلين مستنكراً: «ما هذا الذي صنعتموه؟!» .
فيجيبون: خلق منّا نعظّم به أُمراءنا! فيرفض هذا الأُسلوب؛ لأنّه مشقّة لهم، وليس فيه فائدة للأُمراء، وهو شقاء في الآخرة، ولو كان غير عليّ من الحكّام الظالمين لأهلّوا واستهلّوا فرحاً!
1.أُصول الكافي : ج ۲ ص ۶۷ ، باب حسن الصحبة وحقّ الصاحب في السفر .
2.نهج البلاغة : ج ۴ ص ۱۱ .
3.الاختصاص : ص ۱۵۱ .
4.المقصود به فرعون العصر صدام الذي انتقم اللّه منه لمحاربته للشعب العراقي ولجمهورية إيران الإسلامية وللشقيقة الكويت .