القصّة الخامسة : أُسلوب في الاحتجاج
جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم فشكا إليه أذىً من جاره، فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: اصبر، لعلّه يغيّر طريقته. وبعد مدّة جاءه مرّة ثانية، فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: اصبر!
ثمّ جاء مرّة ثالثة، فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم: إذا كان يوم الجمعة اخرج أثاث بيتك وضعه على قارعة الطريق حتّى يراه من يذهب لصلاة الجمعة، فإذا سألوك فاخبرهم بالخبر . ففعل الرجل بوصية الرسول صلى الله عليه و آله وسلم، فأتاه جاره معتذراً، وقال له: ردّ متاعك إلى بيتك، فلك اللّه عليّ أن لا أعود ۱ .
عندما نقرأ هذه القصّة من قصص الكافي، ونمعن النظر فيها ونقرأ أمثالها، نجد المشاهد والصور التالية فيها:
1 ـ نجد صورة ذلك الرجل الذي لحق به الأذى من جاره، وفاق الأذى الحدود، فيأتي لرسول اللّه شاكياً، إلّا أنّ الرسول يأمره بالصبر على الأذى، فقد يغيّر طريقته، وقد جاء في الأحاديث الشريفة :
ليس حسن الجوار كفّ الأذى عن الجار، ولكنّ حسن الجوار هو الصبر على الأذى۲.
2 ـ ونجد صورة ثانية يعود فيها الجار المُعنى شاكياً إلى رسول اللّه ، إذ لم ينفع معه الصبر في الاُولى، فيطالبه وينصحه كذلك بالصبر.
3 ـ ونجد في هذه القصّة القصيرة صورة ومشهداً آخر ـ هو آخر المشاهد ـ حيث يعود الرجل للمرّة الثالثة لرسول اللّه شاكياً إليه استمرار الإيذاء من جار السوء، فينصحه خاتم الأنبياء هذه المرّة بطريقة للاحتجاج على سوء تصرّف جاره معه، فقد نصحه بإخراج أثاث بيته ووضعه على قارعة الطريق، حتّى يرى ذلك كلّ من يذهب إلى صلاة الجمعة، فإن سال المارّون للصلاة منه عن هذا العمل، أجابهم بواقع الحال، وكانت هذه وسيلة للاحتجاج ناجحة، حيث أحرج جار السوء أمام المارّين، فاعتذر من المشتكي وقال له: ردّ متاعك إلى بيتك، فلك اللّه عليّ أن لا أعود!
وممّا يلفت الانتباه هو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم كان يؤكّد على الرجل المشتكي عنده من جاره، كان يؤكّد على الصبر، وهي صفة ذات قيمة إيجابية عليا في المنظومة الإلهيّة الأخلاقية، فهذا كتاب اللّه المجيد يؤكّد عليها حينما يقول مثلا «يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَ الصَّلَوةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ»۳ ، فخير ما يُستعان به على ملمّات وأعباء الحياة هو الصبر، وقد جاء كذلك في الكتاب المبين قوله تعالى : «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ»۴ ، وغير ذلك من الآيات.
وأمّا الروايات التي رويت عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم وأهل بيته، فهي كثيرة لا تعدّ ولا تحصى، وهي تحثّ على الاتّصاف بهذه الصفة الضرورية في حياتنا الفردية والاجتماعية، وهاك بعضها:
قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم:
الصبر ثلاثة: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر عند المصيبة۵.
وقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام :
الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر عمّا تحبّ۶.
وقال الإمام الباقر عليه السلام :
الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة۷.
قال أبو عبد اللّه عليه السلام :
الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان۸.
قال أبو جعفر عليه السلام :
الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفة باللذّات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار۹.
وورد عن عليّ عليه السلام ، وهو يعزّي الأشعث بن قيس بفقد ولده:
إنّك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى القدر وأنت مأزور۱۰.
وجاء عنه أيضا عليه السلام :
الصبر مطيّة لا تكبو، والقناعة سيف لا ينبو۱۱.
وعنه عليه السلام :
من ابتُلي من المؤمنين ببلاءٍ فصبر عليه، كان له مثل أجر ألف شهيد۱۲.
وقال عيسى عليه السلام :
إنّكم لا تدركون ما تحبّون، إلّا بصبركم على ما تكرهون۱۳.
وجاء عنه عليه السلام :
لا يعدم الصبور الظفر، وإن طال به الزمان۱۴.
وأمّا ما جاء في الشعر فهو كثير كثير، ومنه:
بنى اللّه للأحرار بيتاً سماؤههموم وأحزان وحيطانه الضرّ
وأدخلهم فيه وأغلق بابهوقال لهم مفتاح بابكم الصبر۱۵
ونُسب إلى عليّ أمير المؤمنين عليه السلام قوله:
إنّي وجدت وفي الأيّام تجربةللصبر عاقبة محمودة الأثر
فقلّ من جدّ في أمرٍ يطالبهفاستصحب الصبر إلّا فاز بالظفر۱۶
ونُسب أيضاً لعليّ عليه السلام :
أخي لن تنال العلم إلّا بستّةسأنبّيك عن مجموعها ببيان
ذكاء وحرص واصطبار وبلغةوإرشاد أُستاذ وطول زمان۱۷
وقال شاعر آخر:
إذا ضاق الزمان عليك فاصبرولا تيأس من الفرج القريب
وطب نفساً بما تلد اللياليعسى تأتيك بالأمر العجيب
وقال آخر:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجتهومدمن القرع للأبواب أن يلجا۱۸
وقال ابن الرومي:
اصبري أيّتها النفسفإنّ الصبر أحجى
ربّما خاب رجاءوأتى ما ليس يرجى۱۹
وهكذا تمضي الآيات والروايات والأبيات تمجّد الصبر وتدعو إليه؛ لأنّه الوسيلة المجرّبة حياتياً، والوصفة الطبّية الإلهيّة لكافّة الشؤون؛ ولأنّه السلاح الذي لابدّ منه في كلّ الحالات والأوضاع (الطاعة والمعصية والابتلاء)، ولهذا نجد الرسول الأعظم يؤكّد للرجل الذي كان يؤذيه جاره بالصبر!
1.أُصول الكافي : ج ۲ ص ۶۶۸ ، باب حقّ الجوار .
2.المصدر السابق .
3.البقرة : ۱۵۳ .
4.الزمر : ۱۰ .
5.أُصول الكافي : ج۲ ص ۹۱ .
6.نهج البلاغة : ج ۴ ص ۱۴ .
7.أُصول الكافي : ج ۱ ص ۳۳ .
8.الكافي : ج ۲ ۸۸ .
9.شرح أُصول الكافي : ج ۸ ص ۲۸۳ .
10.نهج البلاغة: ج ۴ ص ۷۱ .
11.شرح نهج البلاغة : ج ۱ ص ۳۱۹ .
12.أُصول الكافي : ج ۲ كتاب الإيمان والكفر ، باب الصبر .
13.ميزان الحكمة : ج ۲ ص ۱۵۵۶ .
14.نهج البلاغة : ج ۴ ص ۴۰ .
15.الخصائص الفاطمية لمحمّد باقر الكجوري : ج ۲ ص ۵۳۲ .
16.ميزان الحكمة : ج ۲ ص ۱۴۶۴ .
17.مطالب السؤول في مناقب آل الرسول لمحمّد بن طلحة الشافعي : ص ۱۴۸ .
18.الفرج بعد الشدّة للقاضي التنوخي : ج ۲ ص ۴۶۳۲ .
19.أعيان الشيعة : ج ۴ ص ۵۳۶ .