علم الأئمّة (ع) بالغيب و الاعتراض عليه بالإلقاء للنفس إلي التهلکة.. - صفحه 70

والجواب وباللّه التوفيق :

عن قوله : « إنّ الإمام يعلم ما يكون بإجماعنا » ! أنّ الأمر على خلاف ما قال ، وما أجمعت الشيعة ـ قطّ ـ على هذا القول ، وإنّما إجماعهم ثابتٌ على أنّ الإمام يعلم الحكم في كلّ ما يكون ، دون أن يكون عالما بأعيان ما يحدث ويكون ، على التفصيل والتمييز . وهذا يُسقط الأصل الّذي بنى عليه الأسئلة بأجمعها .
فصل (1) : لسنا نمنع أن يعلم الإمام أعيان حوادثٍ تكون بإعلام اللّه تعالى له ذلك . فأمّا القول بأنّه يعلم كلّ ما يكون ، فلسنا نُطلقُه ، ولا نصوّب قائله ، لدعواه فيه من غير حجّةٍ ولا بيانٍ .
فصل (2) : والقول بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم قاتله ، والوقت الّذي يقتل فيه ، وقد جاء الخبر متضافرا : إنّه كان يعلم في الجملة أنّه مقتولٌ ، وجاء أيضا بأنّه كان يعلم قاتله على التفصيل .
فأمّا علمه بوقت قتله ، فلم يأت فيه أثر على التفصيل ، ولو جاء فيه أثرٌ لم يلزم ما ظنّه المستضعفون ، إذ كان لا يمتنع أن يتعبّده اللّه بالصبر على الشهادة والاستسلام للقتل ، ليبلغه اللّه بذلك علوّ الدرجة ما لا يبلغه إلّا به ، ولعلمه تعالى بأنّه يُطيعه ـ في ذلك ـ طاعةً لو كلّفها سواه لم يؤدّها ، ويكون ـ في المعلوم من اللطف بهذا التكليف لخلق من الناس ـ ما لا يقوم مقامه غيره .
فلا يكون أمير المؤمنين عليه السلام مُلقيا بيده إلى التهلكة ، ولا مُعينا على نفسه معونةً مستقبحةً في العقول .
فصل (3) : فأمّا علم الحسين عليه السلام بأنّ أهل الكوفة خاذلوه ، فلسنا نقطع على ذلك ، إذ لا حجّة عليه من عقلٍ ولا سمعٍ ، ولو كان عالما بذلك ، لكان الجواب عنه ما قدّمناه في الجواب عن علم أمير المؤمنين عليه السلام بوقت قتله ، والمعرفة بقاتله ، كما ذكرناه .
فصل (4) : أمّا دعواه علينا : إنّا نقول : إنّ الحسين عليه السلام كان عالما بموضع الماء ، وقادرا عليه ، فلسنا نقول ذلك ، ولا جاء به خبرٌ على حالٍ ، وظاهر الحال الّتي كان عليها الحسين عليه السلام في طلب الماء والاجتهاد فيه يقضي بخلاف ذلك .
ولو ثبت أنّه كان عالما بموضع الماء ، لم يمتنع في العقول أن يكون متعبّدا بترك السعي في طلب الماء من ذلك الموضع ، ومتعبّدا بالتماسه من حيث كان ممنوعا عنه ، حسب ما ذكرناه في أمير المؤمنين عليه السلام ، غير أنّ الظاهر خلاف ذلك ، على ما قدّمناه .
فصل (5) : والكلام في علم الحسن عليه السلام بعاقبة حال موادعته معاوية ، بخلاف ما تقدّم ، وقد جاء الخبر بعلمه ذلك ، وكان شاهد الحال يقضي به ، غير أنّه دفع به عن تعجيل قتله ، وتسليم أصحابه إلى معاوية ، وكان في ذلك لطفٌ في مقامه إلى حالٍ معيّنةٍ ، ولطفٌ لبقاء كثيرٍ من شيعته وأهله وولده ، ورفعٌ لفسادٍ في الدين هو أعظم من الفساد الّذي حصل عند هُدنته .
وكان عليه السلام أعلم بما صنع ، لما ذكرناه وبيّنا الوجه فيه وفصّلناه ۱ .
والمستفاد من مجموع السؤال والجواب : إنّ الظاهر من السؤال ، هو ما أكّد المفيد على نفيه وهو دعوى « علم الأئمّة للغيب بلا واسطة » . وهذا أمرٌ لم تقل به الشيعة ، فضلاً عن أن تجمع عليه ، لما قد ذكرنا في صدر هذه المقالة من أنّ علم الغيب بهذه الصورة خاصّ باللّه تعالى ، ومستحيلٌ أن يكون لغيره من الممكنات . والممكن علمه من الغيب بالنسبة إلى النبيّ والأئمّة عليهم السلام هو الغيب بواسطة الوحي والإلهام من اللّه تعالى ، وهذا لم ينفه المفيد .
والمجمع عليه ـ من هذا ـ بين الشيعة : إنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون جميع الأحكام الشرعيّة بلا استثناء ، لارتباط ذلك بمقامهم في الخلافة عن الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، كما أُثبت ذلك في علم الكلام . وأمّا غير الأحكام ، فالظاهر من المفيد أنّه وضع ذلك في دائرة الإمكان ووقّفه على ورود الخبر والأثر به ، فما قامت عليه الآثار قُبل والتزم به ، وليس أصله مستحيلاً عقلاً ولا ممتنعا من جهة آيةٍ أو سنّةٍ أو عقلٍ .
وهكذا قال في موضع « علم الأئمّة بمقاتلهم وما جرى عليهم » : فالتزم بعلم أمير المؤمنين عليه السلام بالمقدار الّذي جاءت به الأخبار ، فما كان منها واردا بالتفصيل التزم بعلمه له بالتفصيل ، وما كان واردا بالإجمال التزم بعلمه بالإجمال .
وقد نفى المفيد في الفصل الثاني الاعتراض على عليّ عليه السلام « بأنّه ألقى بنفسه إلى التهلكة إذا كان عالما بوقت مقتله » ، بأنّه عليه السلام على ذلك يكون مأمورا بتحمّل ذلك والصبر عليه والاستسلام له ، لينال ـ بهذه الطاعة وهذا التسليم ـ المقامات الربّانية العالية المعدّة له ، والّتي لا يبلغها إلّا بذلك .
فليس المفيد رحمه الله في ردّ هذا الاعتراض مخالفا لما التزمته الطائفة من « علم الإمام بمقتله ، وإقدامه عليه بالاختيار » وإن ادّعى أنّ الآثار لم تنصّ على التفصيل ، بل على مجرّد الإجمال .
والتفصيل بتعيين الساعة والوقت ، وإن لم يذكر في الآثار ، إلّا أنّ المعلوم من القرائن كون ذلك واضحا ومتوقّعا للإمام عليه السلام . ويظهر من هذا أنّ مجيء الأثر بذلك لو تمّ ـ لكان كافيا ووافيا للالتزام به ، وعدم حاجة ذلك إلى القطع به ، لما ذكرنا من أنّ ورود الأخبار ـ غير المعارضة ولا المنافية لأصلٍ ثابتٍ أو فرعٍ مقبولٍ ـ يكفي للالتزام في مثل هذه المواضيع ، الّتي هي بحاجة إلى مقنعات متعارفة ، دون حاجةٍ إلى مثبتاتٍ قطعيّةٍ ، أو حججٍ شرعيّة .
والقول بأنّ الأئمّة يعلمون الغيب بالإجمال دون التفصيل ، قولٌ التزم به من الطائفة السيّد المرتضى وآخرون ، وسنذكرهم أيضا . إلّا أنّ المستفاد من مجموع كلام المفيد ـ وكذا الطوسي فيما سيأتي ـ أنّ الطائفة مجمعةٌ على أنّ النبيّ والأئمّة يعلمون الغيب ـ من اللّه وبوحيه وإلهامه ـ إمّا بالتفصيل أو بالإجمال ، وليس في الطائفة من يُنكر علمهم هذا .
فالقول بنفي علم الغيب عنهم ، مخالفٌ لإجماع الطائفة ، كما أنّ الالتزام بعلمهم الغيب بالاستقلال منافٍ لعقائد الطائفة ، ومعارض بآيات القرآن المطلقة الدالّة على اختصاص ذلك باللّه تعالى .

1.. المسائل العكبرية ، المسألة العشرون : ص ۲۹ ـ ۷۲ من المطبوعة مع مصنّفات الشيخ المفيد ، المجلّد السادس ، وقد وقع في المطبوعة تصحيفات صحّحناها من الهوامش ، وأُخرى من غيرها .

صفحه از 135