علم الأئمّة (ع) بالغيب و الاعتراض عليه بالإلقاء للنفس إلي التهلکة.. - صفحه 31

بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه ربّ العالمين ، الّذي بنعمته تتمُّ الصالحات ، وتُرفع الدرجات ، وأفضل السلام وأكمل الصلاة على سيّد الكائنات ، وأشرف الموجودات ، محمّدٍ صاحب المعجزات الباهرات ، وعلى الأئمّة المعصومين من آله ذوي الكرامات ، والحجج البيّنات .
وبعدُ : فإنّ الإسلام يمرُّ في هذه الأيّام بظروفٍ صعبةٍ إذ استهدف الكفّار والملحدون قرآنه ، وكرامته ، وسنّته ، وأولياءه ، وأُمّته ، بأنواعٍ من التزييف والتهجين والقذف والهتك والاتّهام ؛ لتشويه سمعته وصورته بين شعوب العالم ، ولزعزعة الإيمان به من قلوب معتنقيه والحاملين لاسمه ، خصوصا من ذوي المعلومات السطحيّة ، والدراسة القليلة ، والاطّلاع المحدود ، ومن المغفّلين عن حقائق العلم والدين .
وقد استخدم أعداء الإسلام أحدث الأساليب والأجهزة والأدوات لتفعيلها في هذا الغرض الخبيث ، ومن تلك الأساليب بعث المنبوذين ممّن لجأ إلى أحضان أعداء الإسلام ، وتعمّم باليأس والقنوط من أن يصل إلى منصبٍ أو مقامٍ بين أُمّة الإسلام ، وتعهّدوا له أن ينفخوا في جلده ، ويكبّروا رأسه ، ويصفوه بما يشتهي ويشتهون ، ويقدّموه وكتاباته إلى أُمّة الإسلام وقد ملأها بالهُراء والسفسطة والكتابة الهزيلة الزائفة ضدّ عقائد الأُمّة وشريعتها ومصادر فكر الإسلام ومقدّساته ، باسم الإصلاح ، وباسم نقد العقل ، وباسم الصياغة الجديدة ، وباسم الإعادة لدراسة المعرفة ، وباسم التصحيح ، وباسم القراءة الجديدة ! مع أنّ كلّ هذه الأسماء هي لمسمّىً واحدٍ هو : « تشويه الإسلام وإراءة صورةٍ تشكيكيّةٍ لفكره وشريعته ومصادره » ، وبأقلامٍ مأجورة وعقولٍ قاصرة عن درك أبسط المعاني سوى التلاعب بالألفاظ ، وتسطير المصطلحات من دون وضعها في مواضعها ، بل باستخدامها في خلاف مقاصدها .
إنّ الاستعمار البغيض وأيديه العميلة ، يتصوّرون أنّ بإمكانهم زعزعة الإيمان بالإسلام من قلوب الأُمّة الإسلاميّة ، الّتي فتحت عيونها في هذا القرن على كلّ ألاعيب الأعداء وأساليب عملهم ، وخاصّة باستخدام هذه العناصر البغيضة .
وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة المجيدة بقيادة الإمام المجاهد ، العلم الرائد السيّد الخميني رحمه الله ، توجّه الاستعمار البغيض وعملاؤه الحقراء ، إلى مقاومة التشيّع وأُصوله وفروعه وتراثه المجيد ؛ لأنّه المذهب الوحيد بين المذاهب الإسلاميّة الّذي أنجز الوعد الإلهي للمستضعفين في الأرض ، وتمكّن بدحر الكفر والنفاق بأوليائه من تمكينهم فيها ، بإقامة دولةٍ على أساس الإسلام ، ولا يزال يقوم بدور الريادة للقيادة إلى الانتصار الأكبر .
ومنذ اندلاع الثورة الظافرة وبعد انتصارها وحتّى اليوم ، بدأت الاتّهامات تُترى إلى هذا المذهب العظيم مذهب أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم ، بشتّى الصور والأشكال ، وبكلّ الأدوات والرسائل ، حتّى شنّ الحرب الضروس على يد العميل الناصبي الوغد المتحكّم على العراق .
وكان من أساليبهم القذرة بعث وعّاظ السلاطين وعلماء البلاط على تزييف التراث الشيعيّ في مختلف علومه ومعارفه ، وبخاصّةٍ التراث الحديثي الّذي يعتبر أوسع كنزٍ للثقافة والمعرفة الحقّة .
فاستهدفوا ـ فيما استهدفوا ـ أهمّ كتب الحديث وأقدمها وأكبرها حجما وأعظمها قدرا ، ألا وهو كتاب الكافي الشريف للإمام أبي جعفر الكليني ، محمّد بن يعقوب الرازي ( ت 329 ه ) ، فوجّهوا رأس الحربة إليه ، وجعلوه غرضا لسهام النقد المسمومة .
وممّا أثاروه وأكثروا اللغط والتشويش عليه ، هو موضوع : « علم الأئمّة عليهم السلام بالغيب » ، كما يلتزمه الشيعة ، بما لم تتحمّله عقول أعدائهم الناقدين ؛ لأنّهم لم يفهموا أدلّته ، ولم يعوا مداهُ ولا مغزاه ، فانهالوا عليه بالنقد والتزييف والتهريج والتهويل ، زاعمين أنّ في ذلك « غُلوّا » ، وأنّه يحتوي على دعوى « علمهم المطلق بالغيب » ، وهو لا يعلمه إلّا اللّه .
ناظرين إلى ظواهر عناوين أثبتها الإمام الكليني في كتاب الكافي ، بينما الإمام الكليني إنّما أثبت ما في تلك العناوين من خلال نصوص القرآن الكريم قبل كلّ شيءٍ ، ثمّ ما أعلنه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم لأهل بيته ، ثمّ ما أظهره الأئمّة عليهم السلام لأنفسهم ممّا وافق القرآن الكريم ، ووافق الحديث الشريف الموثوق المجمع عليه ، ولم يخالف العقل ولا المنطق السليم .
وكلّ هذا واضح من عناوينٍ الأبواب الّتي وضعها الكليني فيما يرتبط بعلم الأئمّة عليهم السلام مما سنعرضها هنا ، مأخوذة من كتاب « الحجّة » من الكافي ، وهي :
1 ـ باب أنّ أهل الذكر ، الّذين أمر اللّه الخلق بسؤالهم : هم الأئمّة عليهم السلام .
2 ـ باب أنّ من وصفه اللّه تعالى في كتابه بالعلم : هم الأئمّة عليهم السلام .
3 ـ باب أنّ الراسخين في العلم : هم الأئمّة عليهم السلام .
4 ـ باب أنّ الأئمّة عليهم السلام قد أُوتوا العلم وأُثبت في صدورهم .
5 ـ باب أنّ من اصطفاه اللّه من عباده وأورثهم كتابه : هم الأئمّة عليهم السلام .
وهذه الأبواب الخمسة تحتوي على ما يفسّر آيات القرآن الكريم ، وتنطبق على علم الأئمّة عليهم السلام من خلال الأحاديث الشريفة .
وبهذه البداية تردّ دعاوي الغلوّ عن كلّ ما فيها من المواضيع ، حيث إنّ الكليني قدس سرهبدأ بحثه عن علم الأئمّة عليهم السلام ممّا ثبت لهم من القرآن ، واستلهم عن آياته ، فكيف يُقال : إنّ في إثباته لهم غلوّا فيهم ، وإفراطا بالقول فيهم .
ثمّ انظر إلى الأبواب الآتية :
6 ـ باب أنّ الأئمّة عليهم السلام معدن العلم ، وشجرة النبوّة ، ومختلف الملائكة .
7 ـ باب أنّ الأئمّة عليهم السلام ورثة العلم ، يرث بعضهم بعضا العلم .
8 ـ باب أنّ الأئمّة عليهم السلام تورّثوا علم النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم وجميع الأنبياء والأوصياء الّذين من قبلهم .
9 ـ باب أنّ الأئمّة عليهم السلام عندهم جميع الكتب الّتي نزلت من عند اللّه عزّ وجلّ ، وأنّهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها .
10 ـ باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة عليهم السلام ، وأنّهم يعلمون علمه كلّه .
11 ـ باب في أنّ الأئمّة عليهم السلام يزدادون في ليلة الجمعة .
12 ـ باب لولا أنّ الأئمّة عليهم السلام يزدادون لنفد ما عندهم .
13 ـ باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون جميع العلوم الّتي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والأوصياء .
وهذه الأبواب فيها التأكيد على ارتباط علم الأئمّة عليهم السلام بالنبوّات والأنبياء ، وخاصّة نبيّنا محمّد رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم الّذي أخذ العلم من الوحي النازل عليه . وهذا ردّ على دعوى نسبة الغيب إليهم عليهم السلام بالاستقلال ، ومن طرق غير طرق النبيّ الأعظم والأنبياء من قبل .
فالّذي جاء في هذه الأبواب هو : إنّ علم الأئمّة عليهم السلام مأخوذ من المعارف الإلهيّة الّتي أوحاها إلى الأنبياء ، وكانت عند الملائكة والأوصياء وفي الكتب المنزلة الّتي يتوارثها الأئمّة ، فهي ليست من الغيب الإلهي الخاصّ به تعالى ، بل هم ممّا ارتضاهم لعلمه .
وبعد هذا ، عنون الإمام الكليني للباب التالي :
14 ـ باب فيه ذكر الغيب .
حيث حدّد فيه « الغيب » وما يختصّ علمه باللّه تعالى واستأثر به لنفسه ، ولم يتعدّ إلى غيره .
وبهذا ميّز الكليني بين ما سبق هذا الباب ، وبين ما لحقه من الأبواب ، فعرّف حقيقة الغيب ، وما نفي علمه عن غير اللّه ، وهو العلم الذاتي الاستقلالي ، وفي نفس الوقت نبّه على أنّ ما أثبت للأئمّة عليهم السلام في الأبواب السابقة على هذا الباب (14) ، كلّه خارج عن الغيب المذكور ؛ لكونه كلّه علما مستلهما من القرآن ، وموروثا من الأنبياء والأوصياء .
وكذلك نبّه إلى أنّ ما يأتي من الأبواب إنّما أُعطي لهم علمه لكونهم أولياء اللّه المخلصين الّذين اختصّهم اللّه للإمامة من بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وخلفاء له وأوصياء ، وحججا للّه على خلقه ، خصّهم اللّه بذلك العلم لمقامهم هذا ، كما خصّ الأنبياء والأوصياء السابقين ، فانظر إلى العناوين التالية :
15 ـ باب أنّ الأئمّة عليهم السلام إذا شاؤوا أن يعلموا لعلموا .
16 ـ باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون متى يموتون ، وأنّهم لا يموتون إلّا باختيارٍ منهم .
17 ـ باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون علم ما كان وعلم ما يكون ، وأنّه لايخفى عليهم الشيء صلوات اللّه عليهم .
18 ـ باب أنّ اللّه عزّ وجلّ لم يعلّم نبيّه علما إلّا أمره أن يعلّمه أمير المؤمنين عليه السلام .
19 ـ باب جهات علوم الأئمّة عليهم السلام .
20 ـ باب أنّ الأئمّة عليهم السلام محدّثون مفهّمون .
21 ـ باب وقت ما يعلم الإمام جميع علم الإمام الّذي كان قبله ، عليهم السلام جميعا .
فنرى في هذه الأبواب أنّ علم الأئمّة عليهم السلام محدّد بقيودٍ تخرجه عن كونه من علم الغيب المستقلّ الخاصّ بالبارئ تعالى :
ففي الباب (15) : قيّد العلم بقيد « إذا شاؤوا . . . » فهو إذن ليس قبل المشيئة لدُنّيّا مستقرّا .
وفي الباب (16) : تعلّق علمهم بموتهم ، فكيف يكون هذا غلوّا فيهم ؟ !
وفي الباب (17) : وسّع دائرة علمهم إلى ما كان وما يكون ، ولو كان من علم الغيب لم يحتج إلى هذه التوسعة .
وفي الباب (18) : تصريح بأنّ علم الإمام إنّما هو من اللّه تعالى بواسطة نبيّه صلى الله عليه و آله وسلم .
وفي الباب (19) : أثبت لعلمهم جهاتٍ ، بينما العلم اللدنّي لايختصّ بجهة دون جهة !
وفي الباب (20) : أثبت أنّهم يأتيهم الحديث والفهم من خارج ! فليس لدُنّيّا ذاتيّا مستقلّاً .
وفي الباب (21) : حدّد لعلمهم وقتا ، واللدنّيُّ غير مؤقّت .
وهكذا ترى أنّ الإمام الكليني إنّما أثبت في كتاب الكافي الشريف ما ليس فيه أدنى شبهة للغُلوّ أو شمول علم الأئمّة عليهم السلام للغيب اللدنّي الّذي هو خاصّ باللّه تعالى ، وهو العلم المطلق والمستقلّ ، وإذا اختارهم اللّه لبعض علمه ، فلأنّهم ممّن ارتضاهم في قوله : «إِلَا لِمَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ» ، وهو موروث من جدّهم الرسول صلى الله عليه و آله وسلم .
ومثل هذا العلم ليس ممّا يستكثر عليهم ، ولا ممّا يستنكر وجوده عندهم ، ولا يتفوّه بإنكاره عليهم من يؤمن باللّه وكتابه وبرسوله وبما أنزل من كتاب وسنّة في حقّ خلفائه الأئمّة عليهم السلام ، ولكنّ الّذين لم يستضيؤوا بنور العلم ، ولم يستندوا في أخذه إلى ركنٍ ركينٍ وثيقٍ ، حاولوا الاستنكار ؛ لأنّهم حشويّة لا يفهمون الكلام المتعارف ؛ لأنّهم سطحيّون ظواهريّون ! لا يقارنون بين المقولات ، ولا يدركون ما وراء الألفاظ من المعقولات أو الدلالات والملازمات ، فهم يحكمون على النصوص بظواهرها ، وليس لديهم من فقه الحديث وقواعده علمٌ ولا خبرةٌ .
وقد أصبح هؤلاء ـ وبهذه العقليّة البسيطة والمنحرفة عن أهل البيت وأئمّتهم عليهم السلام ـ راحوا يبحثون في التراث الشيعيّ العظيم ؛ كي يقفوا على ما يحتجّون به للردّ على الشيعة والتشيّع ، فلمّا وقفوا على تلك الأبواب ، وبالأخصّ على مثل الباب (16) ! اتّخذوه ذريعةً للتهريج والتهويل والتطبيل والتكفير والتفسيق للشيعة وإبطال الحقّ .
ثمّ إنّهم استهووا بعض الزعانف من الجهلة ، وأوحوا إليهم الشبهة في علم الأئمّة عليهم السلام : إنّهم إذا كانوا يعلمون متى يموتون ، وأنّ موتهم إذا كان باختيارهم ، فلماذا أقدموا على ما جرى عليهم ؟ أليس ذلك إلقاءً لأنفسهم في التهلكة الّتي نهى عنها اللّه بقوله : «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» ؟
وبما أنّ هذه الشبهة مثارةٌ من قديم الأيّام ، ومنذ عصور الأئمّة عليهم السلام ، فرأينا أن ننشر هذا البحث ليكون مبيّنا لحقيقة الأمر ، وردّا حاسما على مزاعم الزيف الواردة في تلك الكتابات . وهو يستوعب العناوين التالية :
* أصل المشكلة .
* تحديد محاور البحث العامّة وعلم الغيب .
* صيغ الاعتراض عبر التاريخ :
1 ـ في عصر الإمام الرضا عليه السلام ( ت 203 ه ) .
2 ـ في عصر الكليني رحمه الله ( ت 329 ه ) . وفيه الجواب عن الاعتراضات على الكافي .
3 ـ في عصر الشيخ المفيد رحمه الله ( ت 413 ه ) .
4 ـ في عصر الشيخ الطوسي رحمه الله ( ت 460 ه ) .
5 ـ في عصر الشيخ ابن شهر آشوب رحمه الله ( ت 588 ه ) .
6 ـ في عصر الشيخ العلّامة الحلّي رحمه الله ( ت 726 ه ) .
7 ـ في عصر الشيخ المجلسي رحمه الله ( ت 1110 ه ) .
8 ـ في عصر الشيخ البحراني رحمه الله ( ت 1186 ه ) .
9 ـ مع السيّد الخراساني رحمه الله في القرن السابق ( ت 1368 ه ) .
10 ـ في هذا القرن .
* خلاصة البحث .
والمرجوّ من اللّه أن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه رضاه ، وأن يفيض علينا من فضله وبرّه وإحسانه ، إنّه كريم وهّاب وهو ذو الجلال والإكرام .

صفحه از 135