علم الأئمّة (ع) بالغيب و الاعتراض عليه بالإلقاء للنفس إلي التهلکة.. - صفحه 42

الأمر الرابع :

إنّ بعض أدعياء العقل ونقده ، قد انبرى للتطفّل على الكتب والكتابة ، وعلى التراث ومصادره القديمة ، بادّعاء الإعادة لقراءتها ، فعرض هذا البحث بصورة مشوّهة تنمّ عن جهلٍ بأوّليات المعرفة الإسلاميّة ، وقصورٍ عن فهم أبسط نصوصه ، وعرض مشبوهٍ لها ، لإقدامه على بتر المتون ، واقتصاره على الجمل والعبارات الّتي توحي بغرضه على حدّ زعمه ، مع ارتباكٍ في العرض واضطرابٍ في البحث واستخدامٍ لأُسلوب القذف والسبّ ! وليس كلّ هذا ـ ولا بعضه ـ من شأن طالب للعلم ، فضلاً عمّن يدّعي العقل ونقده ، والمعرفة وإعادتها !
ومن الخبط الجمع بين الالتزام بالاعتراضين في عرضٍ واحدٍ وبصورةٍ متزامنةٍ ، فإنّ من غير المعقول أن يحاول أحدٌ أن ينفي عن الأئمّة علم الغيب ، زاعما منافاة ذلك للعقل ؛ وهو يحاول الاستدلال بالآيات الكريمة الّتي ذكرنا بعضها في صدر هذا البحث ، غافلاً عن أنّ دلالة هذه الآيات على اختصاص علم الغيب بذات اللّه تعالى ، مسلّمةٌ عند جميع المسلمين ، شيعة وأهل سنّة ، ولم يختلف في ذلك اثنان ، وليس موضع بحثٍ وجدلٍ حتّى يحتاج إلى إثباتٍ ونقاشٍ ، ولم يدّع أحدٌ أنّ غير اللّه تعالى يمكنه بصورةٍ مستقلّةٍ العلم بالغيب .
وإنّما يقول الشيعة بأنّ اللّه تعالى أوحى إلى نبيّه من أنباء الغيب ، وقد أخبر عن ذلك في قوله تعالى : «ذلِكَ مِنْ أنْباءِ الغَيْبِ نُوْحِيْهِ إِلَيْكَ . . .»۱ .
وقد استثنى اللّه الرسول ممّن لا يظهر على الغيب ، فقال تعالى : «عَالِم الغَيْبِ فَلايظْهرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدا * إِلّا مَن ارْتَضَى مِنْ رَسُوْلٍ . . .»۲ .
فبالإمكان إذن ظهور الغيب الإلهيّ على غير اللّه تعالى ، لكن بإذنه تعالى وبوحيه وإلهامه .
وقد ثبت بطرقٍ مستفيضةٍ أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم أخبر عليّا وأهل البيت عليهم السلام بذلك ، وقد توارثه الأئمّة عليهم السلام ، فهو مخزونٌ عندهم .
وقد عنون الشيخ المفيد رحمه الله لبابٍ في كتاب أوائل المقالات ، نصّه : «القول في علم الأئمّة عليهم السلام بالضمائر والكائنات ، وإطلاق القول عليهم بعلم الغيب ، وكون ذلك لهم في الصفات » ، قال فيه :
وأقول : إنّ الأئمّة من آل محمّدٍ صلى الله عليه و آله وسلم قد كانوا يعرفون ضمائربعض العباد ، ويعرفون ما يكون قبل كونه .
وليس ذلك بواجبٍ في صفاتهم ، ولا شرطا في إمامتهم ، وإنّما أكرمهم اللّه تعالى به ، وأعلمهم إيّاه للطفٍ في طاعتهم والتمسّك بإمامتهم . وليس ذلك بواجبٍ عقلاً ، ولكنّه وجب لهم من جهة السماع .
فإمّا إطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب ! فهو منكرٌ بيّن الفساد ؛ لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقُّه من علم الأشياء بنفسه لا بعلمٍ مستفادٍ ، وهذا لا يكون إلّا للّه عزّ وجلّ .
وعلى قولي هذا جماعة أهل الإمامة ، إلّا من شذّ عنهم من المفوّضة ، ومن انتمى إليهم من الغُلاة ۳ .
وقد أثبت الشيخ المفيد الروايات المنقولة بالسمع والدالّة على علم الأئمّة عليهم السلام بالمغيّبات ـ والّتي هي دلائل على فضلهم واستحقاقهم للتقديم ـ في كتاب الإرشاد في أحوال كلّ إمامٍ ، فليراجع .
فنسبة القول بأنّ : الأئمّة يعلمون الغيب بالإطلاق إلى الشيعة ، من دون تفسيرٍ وتوضيحٍ بأنّه بتعليم الرسول الآخذ له من الوحي ، أو بالإلهام والإيحاء والقذف في القلب من اللّه ، وبالنظر بنور اللّه ، كما جاء في الخبر عن المؤمن أنّه : « ينظر بنوره تعالى » ، فهي نسبةٌ ظالمةٌ باطلةٌ ، يُقصد بها تشويه سمعة هذه الطائفة المؤمنة الّتي أجمعت على اختصاص العلم الذاتيّ للغيب باللّه تعالى ، تبعا لدلالة الآيات الكريمة ، وإنّما التزمت أيضاً بما دلّت عليها الآيات الأُخرى من إيصال ذلك العلم إلى الرسول ، وما دلّت عليه الآثار والأخبار من وصول ذلك العلم إلى الائمّة عليهم السلام .
فلم يكن في تلك النسبة الظالمة إلّا التقوّل على الشيعة ، مضافا إلى كشفها عن الجهل بأفكار الطائفة وعقائدها ومبادئها .
فكيف يحقّ لمثل هذا المغرض المتقوّل أن يتدخّل في إعادة قراءة التراث الشيعي ؟ ! ومع أنّه التزم بنفي علم الغيب عن الرسول والأئمّة عليهم السلام ، فهو يحاول أن يورد الاعتراض الثاني أيضا في عرض الاعتراض الأوّل ، بأنّ في أفعال الرسول والأئمّة ما هو من الإلقاء في الهلكة ، وفيما أصابهم على أثر إقدامهم كثيرٌ من السوء الّذي وقعوا فيه ، وحاول جمع ما يدلّ على ذلك ممّا أصاب الرسول وأهل البيت طول حياتهم ، مؤكّدا على أنّ ذلك هو من « السوء » ومن « الهلكة » .
مع أنّ من الواضح ـ بعد إصراره على نفي علم الغيب عنهم ـ أنّ عملهم لم يكن إقداما منهم على الهلكة ، فيجب أن لا يحاسبوا على الإقدام عليها ، أو ينهوا عن الإلقاء فيها ؛ لأنّ الجاهل بالشيء لا يحاسب عليه ، ولا يكلّف بالاجتناب عنه ودفعه .

1.. آل عمران : ۴۴ .

2.. الجنّ : ۲۵ ـ ۲۶ .

3.. أوائل المقالات : ص ۶۷ ، وسيأتي نقل رأي المفيد في مسألة الإلقاء في التهلكة تفصيلاً .

صفحه از 135