قيل لهم :
1 ـ قد علمنا أنّ الإمام متى غلب على ظنّه أنّه يصل إلى حقّه والقيام بما فُوّض إليه ـ بضربٍ من الفعل ـ وجب عليه ذلك ، وإن كان فيه ضربٌ من المشقّة يُتحمّل مثلها ، تحمّلها .
وأبو عبد اللّه عليه السلام لم يسر إلى الكوفة إلّا بعد توثّقٍ من القوم وعهودٍ وعقودٍ ، وبعد أن كاتبوه عليه السلام طائعين غير مكرهين ، ومبتدئين غير مجيبين .
وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرّائها ، تقدّمت إليه عليه السلام في أيّام معاوية ، وبعد الصلح الواقع بينه وبين الحسن عليه السلام ، فدفعهم وقال في الجواب ما وجب .
ثمّ كاتبوه بعد وفاة الحسن عليه السلام ـ ومعاوية باقٍ ـ فوعدهم ومنّاهم . وكانت أيّام معاوية صعبةً لا يُطمع في مثلها ، فلمّا مضى معاوية أعادوا المكاتبة وبذل الطاعة ، وكرّروا الطلب والرغبة ، ورأى عليه السلام من قوّتهم ـ على من كان يليهم في الحال من قبل يزيد وتسلّحهم عليه وضعفه عنهم ـ ما قوّى في ظنّه أنّ المسير هو الواجب ، وتعيّن عليه فعله .
2 ـ ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضهم ، ويضعف بعضهم عن نصرته ، ويتّفق ما اتّفق من الأُمور الطريفة الغريبة . . . أنّ أسباب الظفر بالعدوّ كانت لائحةً ، وأنّ الاتّفاق السيّئ هو الّذي عكس الأمر وقلبه حتّى تمّ فيه ما تمّ .
3 ـ وقد همّ أبو عبد اللّه عليه السلام لمّا عرف بقتل مسلمٍ وأُشير عليه بالعود ، فوثب إليه بنو عقيلٍ فقالوا : واللّه ، لا ننصرف حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا . فقال عليه السلام : « لا خيرَ في العيشِ بعدَ هؤلاء » .
4 ـ ثمّ لحقه الحرُّ بن يزيد ومن معه من الرجال . . . ومنعه من الانصراف ، وسامه أن يقدم على ابن زياد ، نازلاً على حكمه ، فامتنع ، ولمّا رأى ألّا سبيل إلى العود ، ولا إلى دخول الكوفة ، سلك طريق الشام سائرا نحو يزيد ؛ لعلمه عليه السلام بأنّه ـ على ما به ـ أرقّ به من ابن زياد وأصحابه ! فسار حتّى قدم عليه عمر بن سعد في العسكر العظيم ، وكان من أمره ما قد ذُكر وسُطر .
فكيف يقال : إنّه عليه السلام ألقى بيده إلى التهلكة ؟ ! وقد روي أنّه عليه السلام قال لعمر بن سعد : اختاروا منّي : إمّا الرجوعَ إلى المكان الّذي أقبلتُ منه ، أو أن أضع يديَّ على يد يزيد فهو ابن عمّي يرى فيَّ رأيه ، وإمّا أن تسيروا بي إلى ثغرٍ من ثُغور المسلمين ، فأكون رجلاً من أهله ، لي ما لهُ ، وعليَّ ما عليه .
وإنّ عمر كتب إلى عبيداللّه بن زياد بما سأل ، فأبى عليه ، وكاتبه بالمناجزة ، وتمثّل بالبيت المعروف ، وهو :
الآن إذ علقت مخالبُنا بهيرجُو النجاة ولات حين أوان
فلمّا رأى عليه السلام إقدام القوم ، وأنّ الدين منبوذٌ وراء ظهورهم ، وعلم أنّه إن دخل تحت حكم ابن زياد تعجّل الذُلّ والعار ، وآل أمرُه ـ من بعد ـ إلى القتل ، التجأ إلى المحاربة والمدافعة لنفسه ، وكان بين إحدى الحسنيين : إمّا الظفر ، أو الشهادة والميتة الكريمة .
5 ـ وأمّا مخالفة ظنّه لظنّ جميع من أشار عليه من النصحاء ـ كابن عبّاس وغيره ـ فالظنون إنّما تغلب بحسب الأمارات ، وقد تقوّى عند واحدٍ ، وتضعف عند آخر ، ولعلّ ابن عبّاس لم يقف على ما كوتب عليه السلام به من الكوفة ، وما تردّد في ذلك من المكاتبات والمراسلات والعهود والمواثيق .
6 ـ فأمّا محاربة الكثير بالنفر القليل ، فقد بيّنا أنّ الضرورة دعت إليها ، وأنّ الدين والحزم معا ما اقتضيا في هذه الحال إلّا ما فعل .
7 ـ وليس يمتنع أن يكون عليه السلام في تلك الحال مجوّزا أن يفيء إليه قومٌ ممّن بايعه وعاهده ثمّ قعد عنه ، ويحمله ما يرون ـ من صبره وعدم استسلامه ، وقلّة ناصره ـ على الرجوع إلى الحقّ ، دينا أو حميّةً ، فقد فعل ذلك نفرٌ منهم حتّى قُتلوا بين يديه عليه السلام شهداء . ومثل هذا يُطمع فيه ، ويُتوقّع في أحوال الشدّة .
8 ـ . . . والحسين عليه السلام لمّا قوي في ظنّه النصرة ممّن كاتبه ووثق له ، فرأى من أسباب قوّة نصّار الحقّ وضعف نصّار الباطل ، ما وجب معه عليه الطلب والخروج . فلمّا انعكس ذلك ، وظهرت أمارات الغدر فيه وسوء الاتّفاق ، رام الرجوع والمكافّة والتسليم ، كما فعل أخوه عليه السلام ، فمُنع من ذلك ، وحيل بينه وبينه ۱ .
أقول : لا بدّ من تفسير ما ورد في هذا النصّ ـ سؤالاً وجوابا ـ من عبارة « كيف خالف ظنّه ظنّ جميع أصحابه » في السؤال ، وعبارة « غلب على ظنّه » و « قوّى في ظنّه » في الفقرة الأُولى من الجواب ، وعبارة « وأمّا مخالفة ظنّه لظنّ جميع من أشار عليه » في الفقرة الخامسة ، وعبارة « لمّا قوي في ظنّه النصرة » في الفقرة الثامنة .
حيث أُضيفت كلمة « الظنّ » إلى الإمام عليه السلام وهي ظاهرة في إرادة حالة الشكّ والتردّد ، خصوصا بقرينة كلمات « غلب » و « قوى » و « قوي » وقياسه بظنون الآخرين .
وهذا بلا شكّ ، يُعطي الموافقة على أنّ الإمام عليه السلام لم يكن متأكّدا بصورةٍ علميّةٍ ممّا يُقدم عليه .
فلا بدّ إذن من توجيه لهذا الإطلاق ، فأقول : بما أنّ المرتضى والطوسي استعملا في الجواب كلمة « الظنّ » في مورد الحكم الشرعيّ، حيث قالا في الفقرة الأُولى : « متى غلب على ظنّه أنّه يصل إلى حقّه . . . بضرب من الفعل وجب عليه ذلك » ، وفي الفقرة الثامنة : « لمّا قوي في ظنّه النصرة . . . ما وجب معه عليه الطلب والخروج » .
وهذا « الوجوب » حكم شرعي .
وقد عرفنا فيما نقله المفيد إجماع الطائفة على أنّ الإمام يعلم الأحكام كلّها ، ولا يعتمد فيها على مجرّد « الظنّ »، حيث قال المفيد : « وإنّما إجماعهم ثابت على أنّ الإمام يعلم الحكم في كلّ ما يكون » وكذلك قال : « وعلى ذلك جماعة أهل الإمامة » في إثبات علم الأئمّة بالغيب المستفاد من اللّه تعالى ، واستثنى الغُلاة .
وكذلك ما حصل من حصر الطوسي أقوال الطائفة في مسألة علم الأئمّة بالغيب بين قولين فقط ، ولم يختلفا في أصل علم الأئمّة بالغيب ، وإنّما اختلفا في معرفة « وقت القتل » بين التفصيل والإجمال ، واتّفقا على العلم بغير ذلك بالتفصيل ، فإنّه يقتضي أن يكون الإمام عالما بالأحكام .
كما عرفت أنّ الطوسي نسب القول بالعلم الإجمالي بوقت القتل إلى خصوص المرتضى ، ممّا يقتضي عدم مخالفته للطائفة في التزام العلم في غير هذا ، ومنه الأحكام .
كما أنّ استدلال الكلاميين من الطائفة على ثبوت علم الإمام بالأحكام وضرورة ذلك معروفٌ في كتب الكلام . ومع كلّ هذا ، فكيف يمكن أن يريد الطوسي والمرتضى مجرّد الشكّ والاحتمال ـ ولو الاحتمال الراجح ـ من كلمة « الظنّ » ؟ ! فلا بدّ أن يكون المراد بالظنّ ليس ما يقابل اليقين ، بل يراد به هو « اليقين » .
وقد استُعمل « الظنّ » وأُطلق على « اليقين » لغةً ، وصرّح علماء اللغة بذلك :
قال الجوهري :
الظنّ : معروفٌ ، وقد يوضع موضع العلم .
وقال الأزهري :
الظنّ : يقين ، وشكّ .
وقال ابن سيده :
الظنّ : شكّ ويقين ، إلّا أنّه ليس بيقين عيانٍ ، إنّما هو يقين تدبّر ۲ .
فإذا كان المراد بالظنّ هو اليقين ، فالمعنى : إنّ الإمام عليه السلام لمّا علم بأنّ الفعل هو الواجب عليه حسب الظروف المعيّنة الّتي تحيط به ، فهو عالمٌ بما يقوم به ، في صلحه وسلمه ، وفي خروجه وحربه .
والإمام الحسين عليه السلام كان على علمٍ ويقينٍ بأنّ حركته هي إعلان عن حقّه في قيادة المسلمين الّتي آلت إليه في تلك الظروف ، وأنّه بخروجه وقيامه يملأ الثغرة الّتي كادت الدولة الأُمويّة أن توسّعها بعدما أحدثتها ، والضربة القاضية الّتي كاد يزيد أن يوقعها بالأُمّة الإسلاميّة والدين الإلهي ، بعد أن أنهكهما أبوه طعنا ، فكانت حركة الإمام الحسين عليه السلام سدّا منيعا يصدّ الجاهلية أن تعود إلى الحياة .
ويدلّ على أنّ مراد السيّد المرتضى والشيخ الطوسي إثبات « علم الإمام بما يجري » قولُهما في آخر الفقرة الرابعة : « فلمّا رأى عليه السلام إقدام القوم ، وأنّ الدين منبوذٌ وراء ظهورهم ، وعلم أنّه إن دخل تحت حكم ابن زياد تعجّل الذلّ . . . » . فإذا كان الحسين عليه السلام علم هذا ، فأجدر به أن يعلم غيره ممّا جرى ! .
وأمّا قولهما في الفقرة الثانية : « ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضُهم . . . » ، فمعناه : إنّ احتمالات الغدر والخيانة وطروء الظروف غير المنظورة ، أُمور لا تدخل في الحساب ؛ لأنّها تخميناتٌ لا يمكن الاعتماد عليها لمن يُقدم على مثل ما أقدم عليه الإمام الحسين عليه السلام في الخُطورة والأهمّية ، وفي النتائج العظيمة والوخيمة الّتي كانت تترتّب عليه إيجابا وسلبا .
فالإمام الحسين عليه السلام بنى حركته على أساس من علمه بوجوبها عليه ، وعلمه بما يترتّب عليها من النتائج ، وما يجب أن يتحمّله من المآسي والآلام ، فلا يمنعه الاحتمال ولا تدخل في حسابه التخمينات ، ولم يأبه بما يُثار في هذه الطريق من الأخطار ، إذ لا يُنقض يقينُه بيقين أحدٍ من الناس العاديّين ، فكيف بظنونهم واحتمالاتهم ؟ ! .
إنّ الحسين عليه السلام كان يعمل ويسير من منطلق العلم بالحكم الشرعيّ المحدّد له في مثل ظرفه ، والواضح له من خلال تدبّر مصالح الإسلام والمسلمين ، والمعروف له من بوّابة الغيب المتّصلة بطرق السماء من خلال الوحي النبويّ والإلهام الّذي عرفه بإخبار جدّه النبيّ وأبيه عليّ عليهماالسلام فكان يرى كلّ شيء رأي العين ، ويسير بثباتٍ ويقينٍ ، ولم يكن ليصرفه عن واجبه الإلهيّ المعلوم له ، كلّ ما يعرفه من غدر الكوفة وخيانة أهلها ، فكيف ينصرف باحتمال غدرهم وظنّ خيانتهم ؟ !
وقد شرحنا في كتابنا الحسين عليه السلام سماته وسيرته جانبا من هذه الحقيقة ، في ذكر مواجهة الإمام الحسين عليه السلام لجواب الناصحين له بعدم الخروج ، والمتنبّئين بأنّ مصيره « القتل » فكان الجواب الحاسم :
إنّ الحسين عليه السلام إذا كان خارجا لأداء واجب الدعوة إلى اللّه ، فلا يكون خروجُه لغوا ، ولا يحقّ لأحدٍ أن يُعاتبه عليه ؛ لأنّه إنّما يؤدّي بإقدامه واجبا إلهيّا ، وضعه اللّه على الأنبياء وعلى الأئمّة من قبل الحسين عليه السلام ومن بعده .
وإذا أحرز الإمام تحقّق شروط ذلك ، وتمّت عنده العُدّة ـ ولو الظاهريّة ـ للخروج ، من خلال العهود والمواثيق ومجموعة الرسائل والكتب الّتي وصلت إليه ، فهو لا محالة خارجٌ ، ولا تقف أمامه العراقيل المنظورة له والواضحة ، فضلاً عن تلك المحتملة والقائمة على الفرض والتخمين ، مثل الغدر به ، أو قتله وهلاكه ! ذلك الّذي عرضه الناصحون .
فكيف لو كان المنظور هو الشهادة والقتل في سبيل اللّه ، الّتي هي من أفضل النتائج المتوقّعة والّتي يترقّبها الإمام ، والمطلوبة لمن يدخل هذا السبيل ، ويسير في هذا الطريق الشائك ؟
مع أنّ الشهادة مقضيّةٌ له وهو مأمورٌ بها ، ويحتاج إلى توفيق عظيم لنيلها ، فهي إذن من صميم الأهداف الّتي كان يضعها الإمام الحسين عليه السلام نصب عينيه ، ويسعى لطلبها ، لا أنّها موانع في طريق إقدامه !
وأمّا أهل العراق وسيرتهم ، وأنّهم أهل النفاق والشقاق ، وعادتُهم الغدر والخيانة ، فهي أُمورٌ لا تعرقل خطّة الإمام في قيامه بواجبه ؛ وإن كان فيها ضررٌ متصوّرٌ ، فهي على حياة الإمام ، وتمسّ راحته ، وليس هذا مهمّا في مقابل أمر القيادة الأهمّ ، وأداء واجب الإمامة الإلهي ، ولا في أمر الشهادة حتّى يتركها من أجل ذلك .
ولذلك لم يترك الإمام علي عليه السلام أهل الكوفة بالرغم من إظهاره استياءه منهم إلى حدّ الملل والسأم ! لأنّ الإمام لا يجوز له ـ شرعا ـ أن يترك موقع القيادة ، وواجب الإمامة من أجل أخلاق الناس المؤذية .
وكذلك الواجب الّذي أُلقي على عاتق الإمام الحسين عليه السلام بدعوة أهل العراق وأهل الكوفة بالخروج إليهم والقيام بقيادة أمرهم وهدايتهم إلى الإسلام ، لم يتأدّ إلّا بالخروج ، ولم يسقط هذا الواجب بمجرّد احتمال العصيان غير المتحقّق ، في ظاهر الأمر ، فكيف يرفع اليد عنه ، وما هو عذرُه عن الحجّة الّتي تمّت عليه بدعوتهم ؟ ! ولم يبد منهم نكثٌ وغدرٌ به ؟ ! فلابدّ أن يمضي الإمام في طريق أداء واجبه ، حتّى تكون له الحجّة عليهم ، إذا خانُوا وغدرُوا ، كما حدث في كربلاء ، ولو كان على حساب وجوده الشريف ۳ .
وقلت فيه أيضا :
وغريبٌ أمر أُولئك الّذين ينظرون إلى الموقف من زاوية المظاهر الحاضرة ، ويحذفون من حساباتهم الأُمور غير المنظورة ، ويريدون أن يحاسبوا حركة الإمام وخروجه على أساس أنّه إمامٌ عالمٌ بالمصير ، بل لا بدّ أن يعرف كلّ شيءٍ من خلال الغيب ! فكيف يُقدم على ما أقدم ، وهو عالمٌ بكلّ ما يصير ؟ !
والغرابة في أنّ الإمام الحسين عليه السلام لو عمل طبقا لما يعلمه من الغيب ، لعاب عليه كلُّ من يسمع الأخبار ، ويقرأ التاريخ : إنّه ترك دعوة الأُمّة المتظاهرة بالولاء له ، من خلال آلاف الكتب والعهود ـ والواصلة إليه بواسطة أُمناء القوم ورؤسائهم ـ إنّه تركهم استنادا إلى احتمالات الخيانة والتخاذل ، الّتي لم تظهر بوادرُها إلّا بالتخمين ، حسب ماضي هذه الجماعة وأخلاقهم .
فلو عمل الإمام بعلمه بالغيب ، الّذي لم يؤمن به كثيرٌ من الناس في عصره ومن بعده ، ولم يسلّمه له غير مجموعة قليلة من شيعته ، ولو أطاع أُولئك الناصحين له بعدم الخروج ، لكان مُطيعا لمن لم تجب عليه طاعتُهم ، وتاركا لنجدة من تجب عليه نجدتُهم .
كما أنّ طاعة أُولئك القلّة من الناصحين ، لم تكن بأجدر من طاعة الآلاف من عامّة الشعب ، الّذين قدّموا له الدعوة وبإلحاحٍ ، وقدّموا له الطاعة والولاء . وقبل هذا وبعده ، فإنّ الواجب الإلهيّ يحدُوه ، ويرسم له الخطط للقيام بأمر الأُمّة ، فإذا تمّت عليه الحجّة بوجود الناصر ، فهذا هو الدافع الأوّل والأساسيّ للإمام على الإقدام ، دون الإحجام على أساس الاحتمالات السياسيّة والتوقّعات الظاهريّة .
وإنّما استند إليها في نصوصٍ من كلماته وتصريحاته ؛ لإبلاغ الحجّة ، وإفحام الخصوم ، وتوضيح المحجّة لكلّ جاهلٍ ومظلومٍ ۴ .
إنّ حاصل ما ذكره السيّد المرتضى والشيخ الطوسي في أمر الحسين عليه السلام هو : إنّه عليه السلام علم بواجبه وتيقّن بتماميّة الحجّة ، بدعوة أهل العراق وتواتر كتبهم إليه وطلبهم له ، واستقرّ عليه هذا الواجب ، فنهض لأداء واجبه ، وخرج إليهم ليُتمّ هو الحجّة عليهم ، وهو وإن كان عالما بالنتيجة المعلومة له من الغيب أو من شواهد الحال ، إلّا أنّه لم تقم حجّةٌ خارجيّةٌ عيانا تردّ الحجّة الّتي قدّمها أهل الكوفة بدعوتهم للإمام ، إلّا بعد حصر الإمام في كربلاء .
والإمام لم يُكلّف ـ قبل كربلاء ـ بالعمل بواجبه الظاهر ، ولو أخبر ـ هو ـ بما يعلمه من الغيب ، هل كان يصدّقه أحدٌ ؟ خصوصا من أهل الكوفة الّذين دعوه ؟ وبالأخصّ قبل أن يظهر منهم الغدر ، وقبل أن يُحاط بالإمام في كربلاء ؟
وأمّا في كربلاء ، فإنّ الأمر قد اختلف ، وقد تمّت الحجّة على أهل الكوفة بحضور الإمام ، وبظهور الغدر والخيانة منهم ! وكان واجب الإمام هو حفظ كرامته وحرمته ، وكرامة الإسلام وحرمته الّتي ستُهتك وتُهدر باستسلامه .
مع أنّ مصيره المعلوم كان هو القتل حتّى بعد الاستسلام ! وكما قال الشيخ الطوسي والسيّد المرتضى ـ بنصّ العبارة ـ في الفقرة السادسة : « فإنّ الضرورة دعت إليها ـ أي المحاربة ـ وإنّ الدين والحزم معا ما اقتضيا ـ في هذه الحال ـ إلّا ما فعل » .
فبعد إتمام الإمام عليه السلام الحجّة بما قام به من الخروج والمسير إلى أهل الكوفة ، وحتّى عرضه عليهم الصلح والسلام ـ وبكلّ خياراته وأشكاله ـ ورفضهم لها كلّها ، تمّت الحجّة عليهم ، فحاربهم وقاومهم وجاهدهم ، وناضلهم ، حتّى نال الشهادة .
ومن المخزي أنّ بعض المتطفّلين على العلم والدين ، والقلم والكتابة ، اتّبع ما تشابه من عبارات الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ ، فاستشهد بظواهرها ـ ومن دون بحثٍ وتحقيقٍ عن الأعماق والدلالات المرادة فيها ـ على ما وضعه نصب عينه من نفي علمهم بالغيب ، يحاول إثباته والتأكيد عليه بصورٍ مختلفة :
فتارةً : بدعوى أنّ الحسين عليه السلام لم يكن يعلم بما وقع عليه من القتل والبلاء ، وإنّما خرج طالبا للحكم والسلطان والملك والخلافة ! ولكنّه فوجئ بجيشٍ أقوى ممّا معه ، وبغدر من وعده النصر وخذلانه ، وانقلب الأمر عليه !
وبدعوى : أنّه ما كان يريد أن يُقتل ، وأنّه كان في خروجه يأمل النصر ويتوقّعه ، ولذلك عرض على جيش الكوفة عروضا سلميّة !
وأُخرى بدعوى : أنّه لم يقم إلّا مُنطلقا من خلال العناوين الفقهيّة العامّة ، من دون أن يكون لخصوصيّة إمامته دخلاً في خُروجه وحركته !
إنّ هؤلاء لو جرّدوا الحسين عليه السلام عن قُدسيّة الإمامة الّتي قلّده اللّه بها ، وسلبوا عنه علم الإمام بالغيب حتّى الحكم الشرعيّ ومعرفة ما يجب عليه أن يفعل ! فلماذا جرّدوه وسلبوه من التنبّه لما عرفه أُناسٌ عاديّون عاصروا الأحداث ـ مثل الفرزدق ، وابن عبّاس ، وابن عمر ، وحتّى بعض النساء ـ الّذين أعلنوا أنّ ذهابه إلى العراق يؤدّي إلى قتله ؟ !
ولماذا فرضُوا أنّ الحسين عليه السلام لم ير ما رآه أُولئك برؤيةٍ واضحةٍ ؟ ! وقد أبلغوه آراءهم ورُؤاهم ، فهلّا تنبّه ـ لو فرضت له غفلة ـ أنّ هؤلاء ينزلون بالحسين إلى مرتبةٍ أقلّ من إنسانٍ عاديّ عاصر الأحداث !
وكيف لهم أن يُعرضوا ـ بغمضة عينٍ ـ عن عشرات الآثار والروايات والأخبار والأحاديث ، وفيها الصحيح والمسند والمتّصل ، وذات الدلالات الواضحة ، والّتي مُلئت بها كتب السيرة والحديث والتاريخ ، والّتي أخبرت عن « مقتل الحسين ومصرعه في كربلاء » ، وعلى لسان النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله وسلم وعليّ أمير المؤمنين عليه السلام ؟ !
تلك الأخبار الّتي عُدّت من « دلائل النبوّة » و « معجزات الإمامة » والّتي احتجّ بها المسلمون ، وتواتر خبرها بينهم ، فأخبرت عن « قتل الحسين في كربلاء » قبل مولده وعنده وبعده ، وقد أحضر الرسول تربة مصرعه وشمّها ، وحضر عليٌّ أرض كربلاء ، وصبّر أبا عبد اللّه فيها وهو في طريق صفّين ذهابا وإيّابا .
وهل يتصوّرون أنّ هذه الأخبار خفيت عن الحسين نفسه وقد علمها غيره ؟ !
1.. تلخيص الشافي : ج ۴ ص ۱۸۱ ـ ۱۸۸ ، وقد نقله عنه وعن تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى : ص ۱۷۹ ـ ۱۸۲ النقوي في السبطان في موقفيهما : ص ۵۱ فما بعدها ، مع ردّ على مفردات السؤال والجواب معا ، فلاحظه .
2.. انظر : لسان العرب ، مادّة « ظنن » .
3.. الحسين سماته وسيرته ، الباب ۳ الفقرة ۲۷ « عراقيل على المسير » .
4.. المصدر السابق ، الفقرة ۲۹ « أنصار أوفياء » .