وأمّا الصغرى فلما ثبت من أنّه خالق للأفلاك والعناصر بما فيها من الأعراض والجواهر وأنواع المعادن والنبات وأصناف الحيوانات على اتّساق وانتظام وإتقان وإحكام تحيّر فيه العقول والأفهام، ولا تفي بتفاصيلها الدفاتر والأقلام على ما يشهد بذلك علم الهيئة وعلم التشريح وعلم الآثار العِلويّة والسفليّة وعلم الحيوان والنبات، مع أنّ الإنسان لم يُؤْتَ من العلم إلّا قليلاً، ولم يجد إلى الكثير سبيلاً، فكيف إذا رقى إلى عالم الروحانيّات من الأرضيّات والسماويّات، وإلى ما يقول به الحكماء من العقول المجرّدة؟
فإن قيل: إنّ ما اُريد الانتظام والإحكام من كلّ وجه بمعنى أنّ تلك الآثار مرتّبةٌ ترتيبا لا خلل فيه أصلاً، وملائمةٌ للمنافع والمصالح المطلوبة منها بحيث لا يتصوّر ما هو أوفق منه وأصلح، فظاهر أنّها ليست كذلك بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات، وإن اُريد في الجملة ومن بعض الوجوه، فجلّ آثار المؤثّرات من غير العقلاء بل كلّها كذلك، فإنّ تبريد الماء وتسخين النار ينتفع بهما.
قلنا: المراد اشتمال الأفعال والآثار على لطائف الصنع وبدائع الترتيب وحسن الملاءَمة للمنافع، والمطابقة للمصالح على وجه الكمال وإن اشتمل بالعرض على نوع من الخلل، وجوّز في بادئ الرأي وأوّل النظر أن يكون فوقه ما هو أكمل والعلم بأنّ مثل ذلك لم يصدر إلّا عن العالم الضروري سيّما إذا تكرّر وتكثّر، وخفاء الضروري على بعض العقلاء جائز ۱ .
فإن قيل: قد يصدر عن بعض الحيوانات العُجم أفعال متقنة محكمة في ترتيب مساكنها، وتدبير معايشها كما للنحل وكثير من الوحوش والطيور على ما هو في الكتب مسطور، وفيما بين الناس مشهور، مع أنّها ليست من اُولي العلم.
قلنا: لو سلّم أنّ موجد هذه الآثار هو هذه (ظ) الحيوانات فلِمَ لا يجوز أن يكون فيها من العلم قدر ما تهتدي إلى ذلك بأن يخلقها اللّه تعالى عالمة بذلك، أو يلهمها حين ذلك الفعل.