اللّهُ»
۱ وقال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفا فِطْرَةَ اللّهِ الَّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها»۲ فإذاً في فطرة الناس ـ كما يشهد عليه القرآن ـ ما يغني عن إقامة البرهان، هذا كلامه.
والتنبيه على ما أفاده ـ من أنّ فطرة النفوس تشهد بكونها مقدورة بحسب تسخير الغير وتصرّفه بمقتضى تدبيره ـ أنّ كلّ أحد إذا راجع وجدانه يعلم أنّه دائم التغيّر والانتقال في الإرادات والعزمات، ولا يثبت بحال في حال قطعا، وأنّه لا يستقلّ في ذلك، بل لا يقدر عليه أصلاً، بل كان غيره يقلّبه من حال إلى حال، ويصرّفه من إرادة إلى إرادة، ويغيّر عزمه إلى آخر، فكم من عازم على فعل في اليوم نقض إقبالُ الليل عزمَه، وكم من مشتاق إلى أمر ليلاً بغّضه إليه ضوء النهار، ولذلك قال عزّ من قال: «عرفت اللّه بفسخ العزائم ونقض الهمم» ۳ فافهم.
ومنها: الإلهامات الحاصلة دفعة في العلوم والسياسات، وفي الأطفال الإنسيّة وعجم الحيوانات في معالجات أمراضها بالحشائش والأدوية، ومعرفة مصالحها وقصد الثَدْي عند الولادة، والحَبّ عند انكسار البيضة وتغميضها العين عند قصدها بالإصبع أو بحديدة، وغير ذلك من الإلهامات والعجائب الموجودة في أنواع الحيوانات المتعلّقة بمصالحها ومنافعها اللائقة بها على ما هو مذكور في كتاب الحيوان تدلّ دلالة ظاهرة على وجود مدبّر حافظ مُلهِم لتلك الأنواع ما يليق بها من المصالح والمنافع، وهو الإله المدبّر للعالم، قال اللّه تعالى: «وَنَفْسٍ وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها»۴ بل نقول: إنّك بعد التفحّص والاستقراء التامّ تجد أنّ كلّ واحد من الجواهر والأجسام العالية والسافلة تهتدي بخصائص مصالحه بلا تعلّم واكتسابٍ اهتداءً طبيعيا أو نفسانيا، فالهادي لكلّ منها إلى خصائص مصالح ذاته ليس إلّا مدبّر الكلّ، وتلك الهداية السارية في جميع جواهر العالم ليست إلّا فعل الحافظ لها المعتني بشأنها، قال اللّه تعالى شأنه: «أَعْطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى»۵ .