وقال هذا المحقّق أيضا في موضع آخر:
أقول ـ والتوفيق من اللّه مسؤول ـ : اعلم أنّ العقل إذا أدرك شيئا فإنّ من فطرته وجبلّته أن يخترع معنى ما في معرض البيان يشير إلى ما أدركه ويعبّر به عمّا ناله، لا اُريد البيان اللساني بل البيان النطقي العقلي. ثمّ إنّه يستعمل ذلك المعنى محاذيا لما أدركه ومحاكيا له، ومن شأن الحكاية أن يذهل عنها نفسها ويضمحلّ في البين ويتوجّه منها إلى المحكيّ، فإذا يحكم عليه بجميع أحكام المحكيّ؛ لأنّه مضمحلّ في البين والمنظور إليه المحكيّ لا غير، وتلك الأحوال أحواله، فإن استمعه المستمع من حيث ما يقوله القائل يصدّقه، وإن اتّفق له أن نظر إلى نفسها ونظر إليها بما هي ولم يضمحلّ في البين، وجد جميع الأحكام كاذبة، فهذه المفهومات مخترعات ومنتزعات، وحيث كانت لها مطابقات قصدت بها حكاياتها كانت نفس أمريات، وإلّا فلا. انتهى.
أقول: هذا الكلام دقيق حقيق بالتصديق صدر عن محصّله. وملخّصه ما ذكرنا من أنّ للاُمور الاعتباريّة الانتزاعيّة اعتبارين:
أحدهما: اعتبارها من حيث نفس مفهوماتها وبهذا الاعتبار ليست اُمورا يتّصف بها الأشياء في نفس الأمر، ولا هي تتّصف ۱ بالاُمور النفس الأمريّة إلّا باعتبار وجودها في الذهن.
وثانيهما: اعتبارها من حيث إنّها تكون ۲ آلة لملاحظة مبادئ انتزاعها ومصداقاتها، وحينئذٍ تكون منسوبة إلى نفس الأمر؛ ولهذا اشتهر أنّ تلك الاُمور إن كانت لها مبدأ انتزاع فنفس أمريّة، وإلّا فلا، فالأحكام والأحوال النفس الأمريّة ـ التي [هي] جارية على تلك الاُمور، لا باعتبار خصوص الوجود الذهني ـ لا تصدق ۳ حقيقة إلّا باعتبار مبادئ انتزاعها