السَّـكون ، وقد أضرّ بي وبأطفالي الجوع ، وها أنا مُفارِقُك ، ويَعِزُّ عليَّ فراقك ، أستودعُكَ اللّه ، هذا فراقُ بيني وبينك .
ثمّ خرج ، ومضى مع المكارية يريد الوقف وسوراء ۱ ، وفي صحبته وهبان السُّلمي وأبو كروان ، فلمّا وصلوا إلى أبي هبيش نزلوا ونزل أبو البقاء ، فرأى في منامه أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو يقول : يا أبا البقاء ، فارقتني بعد طول هذه المدّة؟! عُد إلى حيثُ كنت ، فانتبه باكيا .
فقيل : ما يُبكيك؟ فقصّ عليهم المنام ، ورجع .
فحيثُ رأته زوجته وبناته صَرَخْنَ في وجهه ، فقصّ عليهنّ القصّة ، وأخذ مفتاح القُبّة من الخازن بن شهريار القُمّي ، وقَعَد على عادته ، ففي اليوم الثالث ، أقبَلَ رجلٌ وبين كفّيه مخلاةٌ ۲ فحلّها ، وأخرج منها ثيابا لَبِسها ، ودَخَل إلى القبّة الشريفة ، وزار وصلّى ودفع إليَّ خفيفا ، وقال : آتينا بطعامٍ نتغذّى .
فمضى أبو البقاء وأتى بخبزٍ ولَبَنٍ وتَمْرٍ .
فقال له : ما يؤكل لي هذا ، امض به إلى أولادك يأكلوه ، وخُذ هذا الدينار ، واشتر لنا دجاجةً وخبزا .
ففعلتُ ذلك ، فلمّا صلّى الظُّهرين أتى إلى داري ، فأحضرتُ الطعام وأكلنا ، وقال لي : آتني بأوزان الذهب . فَطَلع أبو البقاء إلى زيد بن واقصة ، وهو صائغٌ على باب دار التقيّ بن اُسامة العلويّ النسّابة ، فأخذ منه الصينيّة وفيها أوزانها كلّها ، فجَمَع الرجل جميع الأوزان ، فوضعها في الكفّة ، وأخرج كيسا مملوءا ذهبا ، وترك منه بحذاء الأوزان ، وصبّه في حِجْر القيّم ، ونهض وشَدَّ ما خلّف وأخذ مداسّه .
فقال له القيّم : يا سيّدي ، ما أصنعُ بهذا؟
فقال : هو لكَ ، يقولُ لكَ الّذي قالَ ارجع حيثُ كنتَ ، قال لي : أعطه حذاء الأوزان التي يأتي بها .
1.سوراء : قرية تقع شمال شرق مدينة الحلّة ، وإليها تُنسب جماعة من العلماء ، وهي لا زالت عامرة وقد مررتُ بها عام ۱۴۲۶ق.
2.كيسٌ يوضع فيه بعض ما يحمله المسافر.