۰.الحَمدُ للّه ِِ الَّذي أدعوهُ فَيُجيبُني«14 »وإن كُنتُ بَطيئاً حينَ يَدعوني «15 »وَالحَمدُ للّه ِِ الَّذي أسأَلُهُ فَيُعطيني«16 »وإن كُنتُ بَخيلاً حينَ يَستَقرِضُني «17 »
«الحمد للّه » الثناء عليه بالفضيلة ، وهو أخصّ من المدح وأعمّ من الشكر ، فإنّ المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ، وممّا يقال منه وفيه بالتسخير ، فقد يُمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه ، كما يُمدح ببذل ماله وسخائه وعلمه ، والحمد يكون في الثاني دون الأوّل ، والشكر لا يقال إلّا في مقابل نعمة ، فكلّ شكر حمد ، وليس كلّ حمد شكرا ، وكلّ حمد مدح وليس كلّ مدح حمدا. ۱
واللاّم للجنس ، ومعناه الإشارة إلى الحقيقة ، من حيث هي حاضرة في ذهن السامع ، والجارّة : للاختصاص فتختصّ حقيقة الحمد به ، فيكون جميع أفرادها مختصّة به سبحانه ؛ لأنّ النعوت الكمالية كلّها ترجع إليه ؛ لأنّه فاعلها وغايتها كما حُقّق في مقامه ؛ ولأنّه الموجود الحقيقي ، كما يعرفه العارفون ، وثبوت الصفة فرع ثبوت الموصوف ؛ وذلك أنّهم يرون كلّ قدرة مستغرقة في القدرة بالذات ، وكلّ علم مستغرق في العلم بالذات ، وهكذا في كلّ صفة كمالية». ۲
وبالجملة ، إنّ اللّه سبحانه هو الذي خلق العالم وقدّر ونظم فأبدع ، وجعل كلّه مشتملاً على علل ومعلولات وأسباب ومسبّبات في تدبيرٍ متّصل مرتبط كموجَدٍ واحد ، يحكم عليه قانون واحد وإرادة واحدة ، فكان جميع العوالم موجود واحد يدبّره تدبير واحد ، والإنسان جزء من هذا الواحد ، وواقع في سلسلة العلل والمعلولات والأسباب والمسبّبات ، و«أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسبابها» ، ۳ فكلّ حسنة تصل إليه بتدبيره تعالى وأمره بها ، وكلّ ما أصابته من سيّئة فهو اختياره ونهيه تعالى عنها ؛ لأنّ اللّه تعالى أراد أن يكون الإنسان مختارا وأفعاله اختيارية بتمامه في خيرها وشرّها ، وهو المعاقب والمثاب ، وأمرهم بما فيه صلاحهم معادا ومعاشا ، فكلّما يرتكبه ويفعله من الحسنات فهو بأمره ورضاه وحوله وقوّته ، ويُنسب إليه كما يُنسب إلى الإنسان ؛ لأنّه صدر عن أمره وإرادته التشريعيّة والتكوينيّة ورضاه ، وما يرتكبه من القبائح لا يُنسب إليه تعالى ؛ لأنّه لم يكن عن أمره ورضاه ، بل هو لفاعله وإن كان ذلك بحوله وقوّته ، وهو القادر على ما أقدرهم عليه والمالك لما ملّكهم ، فكلّ حسنة منه تعالى والحمد له ، وكلّ قبيح ليس منه ؛ لأنّه لا يرضاه بل ينهى عنه ، قال تعالى : «مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ » . ۴
«الذي أدعوه فيجيبني» تقدّم الكلام في أمره تعالى عباده بالدعاء ودعاء العبد إيّاه سبحانه وإجابته تعالى إيّاهم ، والمراد من هذه الجملة تحقّق وعده تعالى بالإجابة.
«وإن كنت بطيئا حين يدعوني» البُط ءُ بالضّم تأخّر الانبعاث في السير... فبط ءُ إذا تخصّص بالبطؤ وتباطأ : تحرّى وتكلّف ذلك ، ۵ ومنه الخبر : «من بطأ به عمله لم ينفعه نسبه» ، أي من أخّره عمله السيّئ وتفريطه في العمل الصالح لم ينفعه في الآخرة شرف النسب ، قاله الجوهري. ۶
الإنسان بحسب طبعه وغرائزه وشهواته يميل إلى خلاف ما أمر اللّه تعالى ، وهواه يمنعه عن المبادرة إلى الطاعة ، قال تعالى : «وَ أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى » . ۷
والإنسان مجبول على غرائزه ، كما أنّه مجبول على معرفته تعالى كما تقدّم ، ولكنّ الهوى يغلب عليه ويمنعه عن الطاعة ؛ لأنّ طاعته تعالى ورضاه فيما يخالف هواه ، فبالنتيجة يكون إجابة العبدٍ ربّه يحصل عن بط ء ، يأمره بالإنفاق وحبّ المال يمنعه ، ويأمره بالعبادة وحبّ الراحة يمنعه ، وكذا الجهاد وترك المعاصي ؛ لأنّ كلّها خلاف ما يهواه ويميل إليه وزيّنه الشيطان ، فالعبدٍ يبطئ إذا دعاه ، بل يعصي ويخالف ويتبع هواه.
فطوبى لعبدٍ قدّم هوى مولاه على هواه ، ورضاه على رضاه ، بل كان هواه في طاعة مولاه ، وعبادته مناجاته ، يلتذّ بالطاعة ولا يهوى إلّا ما يهوى مولاه ، ولا يحبّ إلّا ما يحبّه «وهل الدين إلّا الحبّ» . ۸
والمعنى المراد : إنّ الحمد للّه الذى ، أدعوه فيجيبني بلا بط ء ، مع أنّي بطيء في طاعته ، كسلان يأمر وينهى ويحبّ ويبغض.
«والحمد للّه الذي أسأله فيعطيني» السؤال استدعاء معرفة أو ما يؤدّي إلى المعرفة ، استدعاء مال أو ما يؤدّي إلى المال ، والسؤال للمعرفة قد يكون للمعرفة أو للتبكيت ، وسؤال العبد عن اللّه تعالى إمّا استدعاء للمال أو المعنويات ، والغرض الحمد والثناء للّه تعالى بإعطائه إيّاه بعد السؤال من دون أيّ بط ءٍ منه تعالى .
«وإن كنت بطيئا حين يستقرضني» أي وإن كنت بطيئا حين يطلب منّي مالاً ، والقرض بمعنى القطع ، وأطلق على أن يقطع إنسان من ماله شيئا فيتصدّق به ، أو يقرضه شخصا على أن يؤدّيه عند المطالبة أو عند اليسار ، ويقال : القراض ، وهي المضاربة من الضرب في الأرض ، و سُمّيت المضاربة قراضا ، وهو أن يدفع الإنسان إلى غيره مالاً ليعمل به بحصّته من ربحه ، لكون المال مقطوعا يسافر به للتجارة ، فسار مضاربة لضربه في الأرض.
استقرض اللّه سبحانه عن عباده في قوله عزّ شأنه : «مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَـعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُـطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ »۹ ؛ «مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَـعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ »۱۰ ؛ «وَ أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَ ءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَ أَقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَ مَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَ أَعْظَمَ أَجْرًا »۱۱ ؛ «إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَـعِفْهُ لَكُمْ »۱۲ ؛ «إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقَـتِ وَ أَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَـعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ »۱۳ ؛ «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـقَ بَنِى إِسْرَ ءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَوةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَوةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْوَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّـتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَـرُ » . ۱۴
لمّا حثّ اللّه سبحانه عباده على الجهاد وبذل النفس والمال ، وعقّبه بالتلطّف في الاستدعاء إلى أعمال البرّ والإنفاق في سبيل الخير ، فقال : «مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ » ، أي ينفق في سبيل اللّه وطاعته ، والمراد به الأمر ، وليس هذا بقرض حاجة» ، «سمّى اللّه تعالى الإنفاق قرضا تلطّفا للدعاء إلى فعله ، وتأكيدا للجزاء عليه ، فإنّ القرض يوجب الجزاء قرضا حسنا ، والقرض الحسن أن ينفق من حلال ولا يفسده بمنٍّ ولا أذىً ... طيّب النفس ...». ۱۵
وعد اللّه عزّ وجلّ في استقراضه للمطيعين : أن يردّ ما أنفقوا في سبيل اللّه عليهم أضعافا كثيرة ، وأن يكفّر عنهم سيّئاتهم ، وأن يدخلهم جنّات النعيم ، وأن يعطيهم أجرا كريما.
1.مفردات ألفاظ القرآن : ص ۱۳۱ .
2.رياض السالكين : ج ۱ ص ۲۳۰ .
3.اُنظر : بصائر الدرجات : ص ۲۶ ، الكافي : ج ۱ ص ۱۸۳ ح ۷ ، بحار الأنوار : ج ۲ ص ۹۰ .
4.النساء : ۷۹ .
5.مفردات ألفاظ القرآن : ص ۵۲ .
6.النهاية لابن الأثير : ج ۱ ص ۱۳۴ ، لسان العرب : ج ۱ ص ۳۴ ، مجمع البحرين : ج ۱ ص ۲۰۹ .
7.النازعات : ۴۰ ـ ۴۱ .
8.اُنظر : الخصال : ص ۲۱ ، روضة الواعظين : ص ۴۱۶ ، مشكاة الأنوار : ص ۲۱۷ ، بحار الأنوار : ج ۶۶ ص ۲۳۷ .
9.البقرة : ۲۴۵ .
10.الحديد : ۷ .
11.المزمل : ۲۰.
12.التغابن : ۱۷ .
13.الحديد : ۱۸.
14.المائدة : ۱۲.
15.مجمع البيان : ج ۲ ص ۱۳۶ .