71
مكاتيب الأئمّة ج3

21

وصيَّتُه عليه السلام لأخيه الحسين عليه السلام

في الأمالي : حدَّثنا محمَّد بن محمَّد ، قال : حدَّثنا أبو الحسن عليّ بن بلال المهلبيّ ، قال : حدَّثنا مزاحم بن عبدالوارث بن عبَّاد البصريّ بمصر ، قال : حدَّثنا محمَّد بن زكريَّا الغلابيّ ، قال : حدَّثنا العبَّاس بن بكَّار ، قال : حدَّثنا أبو بكر الهذليّ ، عن عكرمة ، عن ابن عبَّاس ۱ .
قال الغلابيّ : وحدَّثنا أحمد بن محمَّد الواسطيّ ، قال : حدَّثنا محمَّد بن صالح بن النَّطَّاح ، ومحمَّد بن الصّلت الواسطيّ ، قالا : حدَّثنا عمر بن يونس اليماميّ ، عن الكلبيّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عبَّاس .
قال : وحدَّثنا أبو عيسى عبيد اللّه بن الفضل الطّائيّ ، قال : حدَّثنا الحسين بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن عمربن عليّبن الحسين بن عليّبن أبيطالب( عليهم السلام) ، قال : حدَّثني محمَّد بن سلام الكوفيّ ، قال : حدَّثنا أحمد بن محمَّد الواسطيّ ، قال : حدَّثنا محمَّد بن صالح ، ومحمَّد بن الصّلت ، قالا : حدَّثنا عمر بن يونس اليماميّ ، عن الكلبيّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عبَّاس ، قال :
دخل الحسين بن عليّ( عليهماالسلام) على أخيه الحسن بن عليّ ( عليهماالسلام) في مرضه الَّذي تُوفّي فيه ، فقال له :
كَيفَ تَجِدُك يا أَخي؟
قال : أجِدُني في أوَّلِ يَومٍ مِن أيَّامِ الآخِرَةِ ، وآخِرَ يَومٍ مِن أيّامِ الدُّنيا ، وَاعلَم أ نِّي لا أسبِقُ أَجَلي ، وَأنِّي وارِدٌ عَلى أبي وَجَدّي عليهماالسلام ، عَلى كُرهٍ منِّي لفِراقِكَ وفِراقِ إخوَتِكَ وفِراقِ الأَحِبَّةِ ، واستَغفِرُ اللّه َ مِن مَقالَتي هذهِ وأتوبُ إلَيهِ ، بَل عَلى مَحَبَّةٍ مِنِّي لِلِقاء رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله وَأميرِ المُؤمِنينَ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ عليه السلام ، وَلِقاءِ فاطِمَةَ ، وحَمزَةَ ، وَجَعفر ٍ عليهم السلام ، وَفِي اللّه ِ عز و جل خَلَفٌ مِن كُلِّ هالِكٍ ، وعَزاءٌ مِن كُلِّ مُصيبَةٍ ، وَدَركٌ مِن كُلِّ ما فاتَ .
رَأَيتُ يا أخي كَبدِي آنِفاً فِي الطَّستِ ، وَلَقَد عَرَفتُ مَن دَهاني ، وَمِن أينَ أُتيتُ ، فما أَنتَ صانِعٌ بهِ يا أَخي؟
فقال الحسين عليه السلام : أقتلُهُ واللّه ِ .
قال : فَلا أُخبِرُكَ بهِ أبَداً حَتَّى نَلقى رَسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وَلكِن اكتُب :
هذا ما أوصى بهِ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ إلى أخيهِ الحُسينِ بنِ عَلِيٍّ :
أوصى أ نَّهُ يَشهَدُ أنْ لا إلَه إلاَّ اللّه ُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، وَأنَّهُ يَعبُدُهُ حَقَّ عِبادَتِهِ ، لا شَريكَ لَهُ فِي المُلكِ ، وَلا وَلِيَّ لَهُ مِنَ الذُّلِّ ، وَأنَّهُ خَلَق كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقديراً ، وَأنَّهُ أَولى مَن عُبِدَ ، وأحَقُّ مَن حُمِدَ ، مَن أطاعَهُ رَشِدَ ، وَمَن عصاهُ غَوى ، وَمَن تابَ إليهِ اهتَدى .
فَإنِّي أُوصيكَ يا حُسَينُ : بِمَن خَلَّفتُ مِن أهلي ، وَوُلدي ، وَأَهلِ بَيتِكَ ، أنْ تَصفَحَ عَن مُسيئهم ، وَتَقبَلَ مِن مُحسِنِهم ، وتَكونُ لَهُم خَلَفاً وَوالِداً ، وأنْ تَدفِنَني مَعَ جَدّي رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فَإنِّي أحَقُّ بهِ وبِبَيتِهِ مِمَّن أُدخِلَ بَيتَهُ بِغَيرِ إذنِهِ ، وَلا كِتابَ جاءَهُم مِن بَعدِهِ ، قال اللّه تَعالى فيما أنزلَهُ عَلى نَبيِّهِ صلى الله عليه و آله في كِتابهِ :
«يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ »۲، فَوَ اللّه ِ ما أُذِنَ لَهُم فِي الدُّخولِ عَلَيهِ في حَياتِهِ بِغَيرِ إذنِهِ ، ولا جاءَهُم الإذنُ في ذلِكَ مِن بَعدِ وَفاتِهِ ، وَنَحنُ مَأذونٌ لَنا فِي التَّصرُّفِ فيما وَرِثناهُ مِن بَعدِهِ ، فَإنْ أبَت عَلَيكَ الإمرأة فَأُنشِدُكَ بِالقَرَابَةِ الَّتي قَرَّبَ اللّه ُ عز و جل مِنكَ ، وَالرَّحِمِ الماسَّةِ مِن رَسولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله أنْ لا تُهريقَ فِيَّ مِحْجَمَةً۳مِن دَم حَتَّى نلقى رَسولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله فَنَختَصِمُ إليهِ ، وَنُخبِرُهُ بِما كان مِنَ النَّاسِ إلينا بَعدَهُ .

ثُمَّ قُبِضَ عليه السلام . ۴

1.عَبدُ اللّه ِ بنُ عَبّاس عبد اللّه بن عبّاس بن عبد المطلب أبو العبّاس القُرَشيّ الهاشِميّ ، من المفسّرين والمحدّثين المشهورين في التّاريخ الإسلامي ، وُلِدَ بمكّة في الشِّعب قبل الهجرة بثلاث سنين . وذهب إلى المدينة سنة ۸ ه ، عام الفتح . كان عمر يستشيره في أيّام خلافته . وعندما ثار النَّاس على عثمان ، كان مندوبه في الحجّ . ولمّا آلت الخلافة إلى الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام كان صاحبه ، ونصيره ، ومستشاره ، وأحد ولاته واُمرائه العسكريّين . كان على مقدّمة الجيش في معركة الجمل ، ثمّ ولي البصرة بعدها . وقبل أن تبدأ حرب صفِّين ، استخلف أبا الأسْوَد الدُّؤليّ على البصرة وتوجّه مع الإمام عليه السلام لحرب معاوية . كان أحد اُمراء الجيش في الأيّام السَّبعة الاُولى من الحرب . ولازم الإمام عليه السلام بثباتٍ على طول الحرب . اختاره الإمام عليه السلام ممثّلاً عنه في التَّحكيم ، بَيْدَ أنّ الخوارج والأشْعَث عارضوا ذلك قائلين : لا فرق بينه وبين عليّ عليه السلام . حاورَ الخوارج مندوبا عن الإمام عليه السلام في النَّهروان مرارا . وأظهر في مناظراته الواعية عدمَ استقامتهم ، وتزعزع موقفهم ، كما بيَّن منزلة الإمام الرَّفيعة السَّامية . كان واليا على البصرة عند استشهاد الإمام عليه السلام . بايع الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ، وتوجّه إلى البصرة من قِبَله . ولم يشترك مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء . وعلّل البعض ذلك بعماه . لم يبايع عبدَ اللّه بن الزُّبَيْر حين استولى على الحجاز ، والبصرة ، والعراق . ومحمّد بن الحنفيّة لم يبايعه أيضا ، فكَبُرَ ذلك على ابن الزُّبَيْر حتَّى همّ بإحراقهما . كان ابن عبّاس عالما له منزلته الرَّفيعة العالية في التَّفسير ، والحديث ، والفقه . وكان تلميذ الإمام عليه السلام في العلم مفتخرا بذلك أعظم افتخار . توفّي ابن عبّاس في منفاه بالطائف سنة ۶۸ ه وهو ابن إحدى وسبعين ، وهو يكثر من قوله : اللَّهمَّ إنِّي أتقرَّب إليك بمحمّدٍ وآله ، اللَّهمَّ إنِّي أتقرّب إليك بولاية الشّيخ عليّ بن أبي طالب وفي رواية : لمّا حضرت عبد اللّه بن عبّاس الوفاة قال : اللَّهمَّ إنِّي أتقرّب إليك بولاية عليّ بن أبي طالب . خلفاء بني العبّاس من ذرّيّته وأخبر الإمام عليه السلام بهذا في خطابه لابن عبّاس أبا الأملاك . المستدرك على الصّحيحين عن الزّهري : قال المهاجرون لعمر بن الخطّاب : ادع أبناءنا كما تدعو ابن عبّاس . قال : ذاكم فتى الكهول ، إنّ له لسانا سؤولاً وقلبا عقولاً . أنساب الأشراف : إنّ ابن عبّاس خلا بعليٍّ حين أراد أن يبعث أبا موسى فقال : إنّي أخاف أن يخدع معاوية وعمرو أبا موسى فابعثني حكما ولا تبعثه ولا تلتفت إلى قول الأشعث وغيره ممّن اختاره فأبى ، فلمّا كان من أمر أبي موسى وخديعة عمرو له ما كان ، قال عليّ : للّه درّ ابن عبّاس إن كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق . مختصر تاريخ دمشق عن المدائني : قال عليّ بن أبي طالب في عبد اللّه بن عبّاس : إنّه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق لعقله وفطنته بالاُمور . الجمل عن أبي مخنف لوط بن يحيى : لمّا استعمل أمير المؤمنين عليه السلام عبد اللّه بن العبّاس على البصرة ، خطب النّاس فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على رسوله ، ثمّ قال : يا معاشر النّاس ! قد استخلفت عليكم عبد اللّه بن العبّاس ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ما أطاع اللّه ورسوله ، فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحقّ فأعلموني أعزله عنكم ، فإنّي أرجو أن أجده عفيفا تقيّا ورعا ، وإنّي لم اُولّه عليكم إلاّ وأنا أظنّ ذلك به ، غفر اللّه لنا ولكم . وقعة صفّين : كان عليّ قد استخلف ابن عبّاس على البصرة ، فكتب عبد اللّه بن عبّاس إلى عليّ يذكر له اختلاف أهل البصرة ، فكتب إليه عليّ : من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى عبد اللّه بن عبّاس . أمّا بعد ، فالحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد عبده ورسوله . أمّا بعد ، فقد قدم عليَّ رسولك، وذكرت ما رأيت وبلغك عن أهل البصرة بعد انصرافي ، وساُخبرك عن القوم : هم بين مقيم لرغبة يرجوها ، أو عقوبة يخشاها ، فأرغب راغبهم بالعدل عليه ، والإنصاف له والإحسان إليه ، وحُلّ عقدة الخوف عن قلوبهم ، فإنّه ليس لاُمراء أهل البصرة في قلوبهم عظم إلاّ قليل منهم . وانتهِ إلى أمري ولا تعده ، وأحسن إلى هذا الحيّ من ربيعة ، وكلّ مَن قِبَلك فأحسن إليهم ما استطعت إن شاء اللّه ، والسلام . الإمام عليّ عليه السلام ـ من كتاب له إلى عبد اللّه بن عبّاس وهو عامله على البصرة ـ : و اعلم أنّ البصرة مهبط إبليس ، ومغرس الفتن ، فحادث أهلها بالإحسان إليهم ، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم ، وقد بلغني تنمّرك لبني تميم ، وغلظتك عليهم ، وإنّ بني تميم لم يغب لهم نجم إلاّ طلع لهم آخر ، وإنّهم لم يسبقوا بوغم في جاهليّة ولا إسلام ، وإنّ لهم بنا رحما ماسّة ، وقرابة خاصّة ، نحن مأجورون على صلتها ومأزورون على قطيعتها . فاربع أبا العبّاس ـ رحمك اللّه ـ فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشرّ ! فإنّا شريكان في ذلك ، وكن عند صالح ظنّي بك ، ولا يفيلنّ رأيي فيك ، والسّلام . مختصر تاريخ دمشق عن سفيان بن عيينة : ورد صعصعة بن صوحان على عليّ بن أبي طالب من البصرة ، فسأله عن عبد اللّه بن عبّاس ، وكان على خلافته بها ، فقال صعصعة : يا أمير المؤمنين ، إنّه آخذ بثلاث وتارك لثلاث : آخذ بقلوب الرّجال إذا حدّث ، وبحسن الاستماع إذا حُدّث ، وبأيسر الأمرين إذا خولف . تارك للمراء ، وتارك لمقاربة اللّئيم ، وتارك لما يُعتذر منه . رجال الكشّي عن الحارث : استعمل عليّ عليه السلام على البصرة عبد اللّه بن عبّاس ، فحمل كلّ مال في بيت المال بالبصرة ، ولحق بمكّة وترك عليّا عليه السلام ، وكان مبلغه ألفي ألف درهم . فصعد عليّ عليه السلام المنبر حين بلغه ذلك فبكى ، فقال : هذا ابن عمّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله في علمه وقدره يفعل مثل هذا ، فكيف يؤمن من كان دونه ؟ اللهمّ إنّي قد مللتهم فأرحني منهم ، واقبضني إليك غير عاجز ولا ملول . رجال الكشّي عن الشّعبيّ : لمّا احتمل عبد اللّه بن عبّاس بيت مال البصرة وذهب به إلى الحجاز ، كتب إليه عليّ بن أبي طالب : من عبد اللّه عليّ بن أبي طالب إلى عبد اللّه بن عبّاس ، أمّا بعد ، فإنّي قد كنت أشركتك في أمانتي ، ولم يكن أحد من أهل بيتي في نفسي أوثق منك لمواساتي وموازرتي وأداء الأمانة إليَّ ، فلمّا رأيت الزّمان على ابن عمّك قد كلب ، والعدوّ عليه قد حرب ، وأمانة النّاس قد خربت ، وهذه الاُمور قد قست ، قلبت لابن عمّك ظهر المِجَنِّ ، وفارقته مع المفارقين ، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين . فكأ نّك لم تكن تريد اللّه بجهادك ، وكأ نّك لم تكن على بيّنة من ربّك ، وكأ نّك إنّما كنت تكيد اُمّة محمّد صلى الله عليه و آله على دنياهم ، وتنوي غرّتهم ، فلمّا أمكنتك الشّدّة في خيانة اُمّة محمّد أسرعت الوثبة وعجّلت العدوة ، فاختطفت ما قدرت عليه اختطاف الذّئب الأزلّ رمية المعزى الكسير . كأ نّك ـ لا أبا لك ـ إنّما جررت إلى أهلك تراثك من أبيك واُمّك ، سبحان اللّه ! أ ما تؤمن بالمعاد ؟ ! أ وَما تخاف من سوء الحساب ؟ ! أ وَما يكبر عليك أن تشتري الإماء ، وتنكح النّساء بأموال الأرامل والمهاجرين الّذين أفاء اللّه عليهم هذه البلاد ؟ ! اردد إلى القوم أموالهم ، فوَاللّه لئن لم تفعل ثمّ أمكنني اللّه منك لأعذرنّ اللّه فيك ، فوَاللّه لو أنّ حسنا وحسينا فعلا مثل ما فعلت ، لما كان لهما عندي في ذلك هوادة ، ولا لواحد منهما عندي فيه رخصة ، حتّى آخذ الحقّ ، واُزيح الجور عن مظلومها ، والسّلام . قال : فكتب إليه عبد اللّه بن عبّاس : أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك ، تعظّم عليَّ إصابة المال الّذي أخذته من بيت مال البصرة ، ولعمري إنّ لي في بيت مال اللّه أكثر ممّا أخذت ، والسّلام . قال : فكتب إليه عليّ بن أبي طالب عليه السلام : أمّا بعد ، فالعجب كلّ العجب من تزيين نفسك ، أنّ لك في بيت مال اللّه أكثر ممّا أخذت ، وأكثر ممّا لرجل من المسلمين ، فقد أفلحت إن كان تمنّيك الباطل ، وادّعاؤك ما لا يكون ينجيك من الإثم ، ويحلّ لك ما حرّم اللّه عليك ، عمّرك اللّه إنّك لأنت العبد المهتدي إذا . فقد بلغني أ نّك اتّخذت مكّة وطنا وضربت بها عطنا ، تشتري مولّدات مكّة والطّائف ، تختارهنّ على عينك ، وتعطي فيهنّ مال غيرك ، وإنّي لأقسم باللّه ربّي وربّك ربّ العزّة ، ما يسرّني أنّ ما أخذت من أموالهم لي حلال أدعه لعقبي ميراثا ، فلا غرو ، وأشدّ باغتباطك تأكله رويدا رويدا ، فكأن قد بلغتَ المدى ، وعُرضت على ربّك ، والمحلّ الّذي يتمنّى الرّجعة ، والمُضيّع للتوبة كذلك وما ذلك ، ولات حين مناص ! والسلام . قال : فكتب إليه عبد اللّه بن عبّاس : أمّا بعد ، فقد أكثرت عليَّ ، فوَاللّه لأن ألقى اللّه بجميع ما في الأرض من ذهبها وعقيانها أحبّ إليّ من أن ألقى اللّه بدم رجل مسلم . الإمام عليّ عليه السلام ـ من كتاب له إلى بعض عمّاله ـ : أمّا بعد ، فإنّي كنت أشركتك في أمانتي ، وجعلتك شعاري و بطانتي ، ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي لمواساتي وموازرتي ، وأداء الأمانة إليّ ، فلمّا رأيت الزّمان على ابن عمّك قد كلب ، والعدوّ قد حرب ، وأمانة النّاس قد خَزيت ، وهذه الاُمّة قد فنكت وشغرت ، قلبتَ لابن عمّك ظهر المجنّ ، ففارقته مع المفارقين ، وخذلته مع الخاذلين ، وخُنته مع الخائنين ، فلا ابن عمّك آسيت ، ولا الأمانة أدّيت . وكأ نّك لم تكن اللّه َ تريد بجهادك ، وكأ نّك لم تكن على بيّنة من ربّك ، وكأ نّك إنّما كنت تكيد هذه الاُمّة عن دنياهم ، وتنوي غرّتهم عن فيئهم ، فلمّا أمكنتك الشّدّة في خيانة الاُمّة أسرعت الكرّة ، وعاجلت الوثبة ، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذّئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة ، فحملته إلى الحجاز رحيب الصّدر بحمله ، غير متأثّم من أخذه ، كأ نّك ـ لا أبا لغيرك ـ حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك واُمّك ، فسبحان اللّه ! أ ما تؤمن بالمعاد ؟ أ وَما تخاف نقاش الحساب ؟ أيّها المعدود ـ كانَ ـ عندنا من اُولي الألباب ، كيف تسيغ شرابا وطعاما ، وأنت تعلم أ نّك تأكل حراما ، وتشرب حراما ، وتبتاع الإماء وتنكح النّساء من أموال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين ، الّذين أفاء اللّه عليهم هذه الأموال ، وأحرز بهم هذه البلاد ! فاتّقِ اللّه واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم ، فإنّك إن لم تفعل ثمّ أمكنني اللّه منك لاُعذرنّ إلى اللّه فيك ، ولأضربنّك بسيفي الّذي ما ضربت به أحدا إلاّ دخل النّار ! وواللّه لو أنّ الحسن والحسين فعلا مثل الّذي فعلت ، ما كانت لهما عندي هوادة ، ولا ظفرا منّي بإرادة ، حتى آخذ الحقّ منهما ، واُزيح الباطل عن مظلمتهما ، واُقسم باللّه ربّ العالمين ما يسرّني أنّ ما أخذته من أموالهم حلال لي ، أتركه ميراثا لمن بعدي ، فضحِّ رُويدا ، فكأ نّك قد بلغت المدى ، ودُفنت تحت الثرى ، وعُرضت عليك أعمالك بالمحلّ الّذي ينادي الظالم فيه بالحسرة ، ويتمنّى المضيّع فيه الرّجعة ، ولات حين مناص ! . عيون الأخبار لابن قتيبة : وجدت في كتاب لعليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه إلى ابن عبّاس حين أخذ من مال البصرة ما أخذ : إنّي أشركتك في أمانتي ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي ، فلمّا رأيت الزّمان على ابن عمّك قد كلب ، والعدوّ قد حرب ، قلبت لابن عمّك ظهر المجنّ بفراقه مع المفارقين ، وخذلانه مع الخاذلين ، واختطفت ما قدرت عليه من أموال الاُمّة اختطاف الذّئب الأزلّ دامية المعزى . وفي الكتاب : ضحِّ رويدا فكأن قد بلغت المدى ، وعرضت عليك أعمالك بالمحلّ الّذي به ينادي المغترّ بالحسرة ، ويتمنّى المضيّع التّوبة ، والظالم الرّجعة . تاريخ الطّبري : خرج عبد اللّه بن العبّاس من البصرة ولحق مكّة في قول عامّة أهل السِّيَر ، وقد أنكر ذلك بعضهم ، وزعم أ نّه لم يزل بالبصرة عاملاً عليها من قِبَل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام حتّى قُتل ، وبعد مقتل عليّ حتى صالح الحسن معاوية ، ثمّ خرج حينئذٍ إلى مكّة . تاريخ اليعقوبي : كتب أبو الأسود الدّؤلي ـ وكان خليفة عبد اللّه بن عبّاس بالبصرة ـ إلى عليّ يعلمه أنّ عبد اللّه أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم ، فكتب إليه يأمره بردّها ، فامتنع ، فكتب يقسم له باللّه لتردّنّها . فلمّا ردّها عبد اللّه بن عبّاس ، أو ردّ أكثرها ، كتب إليه عليّ : أمّا بعد ، فإنّ المرء يسرّه درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه ، فما أتاك من الدّنيا فلا تكثر به فرحا ، وما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعا ، واجعل همّك لما بعد الموت ، والسّلام . فكان ابن عبّاس يقول : ما اتّعظت بكلام قطّ اتّعاظي بكلام أمير المؤمنين . . « كلام فيما نسب إلى ابن عبّاس من الخيانة » من الملاحظات المهمّة في حياة ابن عبّاس موضوع بيت المال بالبصرة ؛ فقد جاء في المصادر التّاريخيّة والحديثيّة كتاريخ الطّبري ، والكامل في التّاريخ ، وأنساب الأشراف ، ورجال الكشّي ، ونهج البلاغة وأمثالها أ نّه أخذ من بيت مال البصرة ، وتختلف أنظار الباحثين حول هذا الموضوع على أقوال : أ ـ أنكره بعض الباحثين وعلماء الرّجال نظرا إلى : ـ ضعف الأسانيد . ـ جلالة ابن عبّاس وعلمه وفضله . ـ ارتباطه الوثيق بالإمام عليّ عليه السلام وإخلاصه له وحبّه إيّاه . ـ دور الاُمويّين في تشويه سمعة أصحاب الإمام عليه السلام . ب ـ اعترف قسم منهم ببعض ما حصل ، لأ نّه ورد في كتب كثيرة ، وتناقله النّاس آنذاك ، وانتُقِد ابن عبّاس عليه يومئذٍ ، فلم يرَ هؤلاء أنّ إنكاره أمر سهل . ج ـ أقرّ بعضهم بأصل الموضوع وبتذكير الإمام عليه السلام إيّاه ، فذهبوا إلى أ نّه وقف على خطئه ، وأعاد أكثر الأموال أو بعضها . وهذا ما ذكره اليعقوبي في تاريخه ، ويبدو أنّ اليعقوبي قد تفرّد في نقله ، غير أ نّه يمكن أن يكون مفيدا في تحليل الموضوع . النقطة المهمّة الّتي ينبغي ألاّ ننساها في مثل هذه الموضوعات هي دور المفتعِلين للحوادث والمُرجِفين . وقد وقف حسن بن زين الدّين المشهور بصاحب المعالم على دور الأمويّين في اختلاق هذه الحادثة ، وأكّده باحثون مثل السيّد جعفر مرتضى العاملي . وسيتيسّر علينا فهم هذه النّقطة إذا عرفنا أنّ ابن عبّاس ـ نظرا إلى مكانته السّامية وسمعته العلميّة الّتي لا تُنكَر ـ كان المدافع الشّجاع عن عليّ وآل عليّ : في ذلك العهد الأموي الأسود ، كما كان المنتقد الجريء للأمويّين والكاشف عن فضائحهم . علما أ نّنا لا نقول بعصمته ، ولا ننكر احتمال خطئه ، بَيْدَ أ نّا نستبعد قبول جميع ما جاء في كتب التّاريخ حول هذا الموضوع ، ولا نراه لائقا بشأن ابن عبّاس . ولذا قال ابن أبي الحديد : قد أشكل عليَّ أمر هذا الكتاب ، فإن أنا كذّبت النّقل وقلت : هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين عليه السلام ، خالفت الرّواة ، فإنّهم قد أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه ، وقد ذكر في أكثر كتب السِّيَر ، وإن صرفته إلى عبد اللّه بن عبّاس صدّني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أمير المؤمنين عليه السلام في حياته وبعد وفاته ، وإن صرفته إلى غيره لم أعلم إلى من أصرفه من أهل أمير المؤمنين عليه السلام ، والكلام يُشعر بأنّ الرّجل المخاطب من أهله وبني عمّه ، فأنا في هذا الموضع من المتوقّفين ! (راجع : أنساب الأشراف : ج ۴ ، حلية الأولياء : ج ۱ ، فضائل الصّحابة لابن حنبل : ج ۲ ، التّاريخ الكبير : ج ۵ ، سِيَر أعلام النّبلاء : ج ۳ ، تاريخ بغداد : ج ۱ ، تاريخ مدينة دمشق : ج ۲۹ ، سِيَر أعلام النّبلاء : ج ۳ ، تاريخ الطّبري : ج ۴ ، العقد الفريد : ج ۳ ، الإمامة والسّياسة : ج ۱ ، مروج الذّهب : ج ۲ ، الأخبار الطّوال ، الفتوح : ج ۴ ، عيون الأخبار لابن قتيبة : ج ۱ ، البداية والنّهاية : ج ۸ ؛ الإرشاد ، الجمل ، وقعة صفّين ، كفاية الأثر ، بشارة المصطفى ، المناقب لابن شهر آشوب : ج ۳ ، نهج الحقّ ، .. . ) وقد ذكرنا هذا الموضوع مفصّلاً مع مصادرهِ في كتاب «مكاتيب الإمام علي عليه السلام » .

2.الأحزاب : ۵۳ .

3.المِحْجمة : أداة الحجم ، والقارورة الَّتي يُجمع فيها دم الحِجامة .

4.الأمالي للطوسي : ص ۱۵۸ ح ۲۶۷ ، بحار الأنوار : ج ۴۴ ص ۱۵۱ ، إثبات الهداة : ج ۵ ص ۱۷۰ ، أعيان الشّيعة : ج ۴ص۷۹.


مكاتيب الأئمّة ج3
70
  • نام منبع :
    مكاتيب الأئمّة ج3
    المساعدون :
    الفرجی، مجتبی
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1384 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 60264
الصفحه من 340
طباعه  ارسل الي