181
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

وقوله عليه السلام : « فلا استعلاؤه باعده » ، أي ليس علوّه ولا قربه كما نعقله من العلوّ والقرب المكانيّين ، بل هو علوّ وقرب خارج من ذلك ، فليس علوّه يقتضي بعدَه بالمكان عن الأجسام ، ولا قربَه يقتضي مساواته إياها في الحاجة إلى المكان والجهة .
والباء في « به » متعلقة بـ « ساواهم » ، معناه : ولا قربُه ساواهم به في الحاجة إلى المكان ؛ أي لم يقتض قربه مماثلته ومساواته إياهم في ذلك .

فصول في العلم الإلهي

قال ابن أبي الحديد : وهذا الفصل يشتمل على عدة مباحث من العلم الإلهي ۱ :

الفصل الأوّل

كونه تعالى عالما بالأُمور الخفيّة

فاعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام إنما قال : « بَطَن خفِيّات الأُمور » وهذا القدر من الكلام يقتضى كونه تعالى عالماً ، يعلَم الأمورَ الخفيّة الباطنة ؛ وهذا منقسم قسمين :
أحدهما : أن يعلم الأُمور الخفية الحاضرة . والثاني : أن يعلم الأُمور الخفية المستقبلة .
والكلام من حيث إطلاقه يحتمل الأمرين ، فنحمله عليهما معا . فقد خالف في كلّ واحدة من المسألتين قوم ؛ فمِنَ الناس مَنْ نَفَى كونه عالما بالمستقبَلات ، ومِنَ الناس مَنْ نفَى كونَه عالماً بالأمور الحاضره ؛ سواء كانت خفيّة أو ظاهرة ؛ وهذا يقتضينا أن نشرحَ أقوال العقلاء في هذه المسائل ، فنقول : إنَّ الناس فيها عَلَى أقوال :
القول الأول : قولُ جمهور المتكلّمين ، وهو أنّ البارئ سبحانه يعلم كلّ معلوم : الماضي الحاضر والمستقبل ؛ ظاهرها وباطنها ، ومحسوسها وغير محسوسها ؛ فهو تعالى العالم بما كان وما هو حاضر ، وما سيكون وما لم يكنْ ، إن لو كان كيف كان يكون ، كقوله تعالى : « وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نهُوا عنهُ »۲ ، فهذا علم بأمرٍ مقدر على تقدير وقوع أصله الذي قد علم

1.أقول : إنّ ابن أبي الحديد قد ذكر الأقوال الصحيحة ، والمخالفة لها ، وأنا اقتصرت على ذكر ما صحّ منها وأسقطت المخالفة طلبا للاختصار وتعميما للفائدة .

2.سورة الأنعام ۲۸ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
180

49

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلامالْحَمْدُ للّهِ الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الْأُمُورِ ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلاَمُ الظُّهُورِ ، وَامْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ ؛ فَلاَ عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ ، وَلاَ قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ .
سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلاَ شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ ، وَقَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلاَ شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ. فَلاَ اسْتعْلاَؤٌهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ ، وَلاَ قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي الْمَكَانِ بِهِ .
لم يَطلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ ، وَلَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِهِ ، فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلاَمُ الْوُجُودِ ، عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ ، تَعَالَى اللّهُ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ وَالْجَاحِدُونَ لَهُ عُلُوّا كَبِيرا!

الشّرْحُ :

بطنتُ سِرّ فلان ، أي أخفيتُه . والأعلام : جمع علَم ، وهو المنارُ يهتدى به ، ثم جعل لكلّ ما دل على شيء . فقيل لمعجزات الأنبياء : أعلام ؛ لدلالتها على نبوّتهم . وقوله عليه السلام : «أعلام الظهور» ، أي الأدلة الظاهرة الواضحة .
وقوله فيما بعد : « أعلام الوجود » أي الأدلة الموجودة ، والدلالة هي الوجود نفسه .
« وامتنع على عين البصير » ، يقول : إنه سبحانه ليس بمرئيّ بالعين ؛ ومع ذلِك فلا يمكِنُ مَنْ لم يَرَهُ بعينه أن ينكره ؛ لدلالة كلّ شيء عليه ، بل لدلالته سبحانه على نفسه .
« ولا قلب من أثبته ببصره » ، أي لا سبيل لمن أثبت وجودَه أن يحيطَ علما بجميع أحواله ومعلوماته ومصنوعاته ؛ أو أراد أنه لا تُعلم حقيقة ذاته ؛ كما قاله قوم من المحققين .
وقد رُوِيَ هذا الكلام على وجه آخر ، قالوا في الخطبة : « فلا قلْبُ مَنْ لم يَرَهُ ينكِره ، ولا عينُ مَنْ أثبته تبصره » ، وهذا غير محتاج إلى تفسير لوضوحه .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 88052
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي