193
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

وهذا الكلام استعارة ، شبه مَنْ عساه يلحق به من أهل الشام بمن يعشو ليلاً إلى النار ؛ وذلك لأنّ بصائرَ أهل الشام ضعيفة ؛ فهم من الاهتداء بهداه عليه السلام كمن يعشُو ببصرٍ ضعيف إلى النار في الليل ، قال : ذاك أحبّ إليّ من أن أقتلهم على ضلالهم ، وإن كنتُ لو قتلتهم على هذه الحالة لباءوا بآثامهم ، أي رجعوا ، قال سبحانه : « إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِإثْمِي وَإثْمِكَ »۱ أي ترجع .

من أخبار يوم صفين

لما ملك أمير المؤمنين عليه السلام الماء بصفين ثم سَمَح لأهلِ الشام بالمشاركة فيه والمساهمة ، رجاء أن يعطفوا إليه ، واستمالةً لقلوبهم وإظهارا للمعدلة وحسن السيرة فيهم ، مكث أياما لا يُرسِل إلى معاوية ، ولا يأتيه مِنْ عند معاوية أحدٌ ، واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال ، وقالوا : يا أميرَ المؤمنين خَلَّفْنا ذراريَّنا ونساءنا بالكوفة ، وجئنا إلى أطراف الشام لنتّخذها وطنا ، ائذن لنا في القتال ، فإنّ الناس قد قالوا . قال لهم عليه السلام : ما قالوا ؟ فقال منهم قائل : إنّ الناس يظنون أنّك تكرهُ الحرب كراهيةً للموت ، وإن من الناس من يظن أنّك في شكٍ مِنْ قتال أهلِ الشام . فقال عليه السلام : ومَتَى كنت كارها للحرب قطّ ! إنّ من العجب حُبِّي لها غلاما ويَفَعاً ، وكراهيتي لها شيخا بعد نفادِ العمر وقرب الوقت . وأمّا شكّي في القوم فلو شككت فيهم لشككتُ في أهل البصرة ، واللّه لقد ضربتُ هذا الأمر ظهرا وبطنا ، فما وجدت يسعُني إلاّ القتال أو أن أعصيَ اللّه ورسوله ، ولكني أستأني بالقوم ، عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة ، فإن رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال لي يوم خيبر : « لأنْ يهديَ اللّه بك رجلاً واحدا خير لك مِمّا طلعت عليه الشمس » .

55

الأصْلُ :

1.سورة المائدة ۲۹ .


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
192

فإن قيل : إنه عليه السلام قال : « لم يسعني إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه و آله » ؛ فكيف يكون تارك الواجِب جاحدا لما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله !
قيل : إنه في حكْم الجاحد ؛ لأ نّه مخالف وعاصٍ ؛ لا سيما على مذهبنا في أنّ تارك الواجب يخلُد في النار وإن لم يجحد النبوة .
اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ، فالذي عليه أكثر الناس وجمهور أرباب السِّير أنّ طلحة والزبير بايعاه طائعين غير مكرهين ثمّ تغيّرت عزائمهما، وفسدت نيّاتهما، وغدرا به.

54

الأصْلُ :

۰.ومن كلام له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفينأَمَّا قَوْلُكُمْ : أَكُلَّ ذلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ ؟ فَوَاللّهِ مَا أُبَالِي ؛ دَخَلْتُ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَيَّ . وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : شَكَّا في أَهْلِ الشَّامِ ! فَوَاللّهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْما إِلاَّ وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي ، وَتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي ، فَهُو أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلاَلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا .

الشّرْحُ :

من رواه : « أكُلَّ ذلك » بالنصب فمفعول فعل مقدر ، أي تفعل كلّ ذلك ، وكراهية منصوب ؛ لأ نّه مفعول له . ومن رواه « أكُلُّ ذلك » بالرفع أجاز في « كراهية » الرفع والنصب ، أمّا الرفع فإنه يجعل « كلّ » مبتدأ ، وكراهية خبره ؛ وأمّا النصب فيجعلُها مفعولاً له كما قلنا في الرواية الأُولى ، ويجعل خبر المبتدأ محذوفا ، وتقديره : أكلّ هذا مفعول ! أو تفعله كراهية للموت! ثم أقسم أنه لا يبالي أتعرَّض هو للموت حتى يموتَ، أم جاءه الموت ابتداء من غير أن يتعرّض له.
وعشا إلى النار يَعْشُو : استدلّ عليها ببصر ضعيف .

مَتَى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضَوْءِ نَارهِتَجِدْ خيْر نَارٍ عِنْدَها خَيْر مُوقِد۱

1.للحطيئة ، ديوانه : ص۲۵ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 89398
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي