605
حكم النّبيّ الأعظم ج2

دراسة حول أحاديث التّحذير

مِنَ المَوتِ عَلى غَيرِ مَعْرفَةِ الإمامِ

إنّ الأحاديث الواردة في التحذير من عدم معرفة الإمام وإنكاره ، واعتبار من مات بدون إمام مات ميتة جاهلية ، هي مورد اتّفاق المسلمين جميعا ، و ممّا روته كتب الفريقين معا . فعلى سبيل المثال ، وفقد روى الكليني في الكافي عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال :
مَن ماتَ لا يعرِفُ إمامَهُ ماتَ ميتةً جاهليّة .۱
وروى أحمد بن حنبل في مسنده عنه صلى الله عليه و آله قوله :
من ماتَ بِغَيرِ إمامٍ ماتَ ميتَةً جاهِلِيَّةً .۲
على هذا الأساس فإنّ ما ذهب إليه ابن تيميّة والألباني ، من نفي ورود مثل هذه الأحاديث من طرق الجمهور وإنكار ذلك ليس في محلّه ۳ ، وهو ناشئ من تجاهل مصادر مهمّة كمسند أحمد بن حنبل وغيره من كتب الجمهور المعتمدة لديهم .
ممّا يُشار إليه أنّ الحديث المذكور قد روي بألفاظ مختلفة ممّا اضطرّ معه ابن تيميّة في نهاية المطاف للإذعان به ونقل أحد ألفاظه المجرّدة عن ذكر «الإمام» ، وهو ما رواه مسلم في صحيحه :
مَن ماتَ ولَيسَ في عُنُقِهِ بَيعَةٌ ماتَ ميتةً جاهِلِيَّةً .۴
وفي الواقع فإنّ أمثال هؤلاء الأشخاص يحاولون صرف هذه الأحاديث عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام الذين اصطفاهم اللّه من العترة الطاهرة ، وتأويلها وتطبيقها على الجهلة وحكّام الجور .
لقد روى ابن أبي الحديد أنّ عبداللّه بن عمر عندما امتنع عن بيعة علي عليه السلام قصد الحَجّاج في تلك اللّيلة ليبايع عبدالملك بن مروان ، حتّى لا يبيت ليلته بدون إمام ، لحديث النبيّ صلى الله عليه و آله : «مَن باتَ بِغَيرِ إمامٍ ماتَ ميتَةً جاهِلِيَّةً» ، فبلغ من احتقار الحجّاج له واسترذال حاله أن أخرج رجله من الفِراش فقال : إصفق بيدك عليها ! ۵
على هذا الأساس فإنّ المهم في الحديث هو دلالته وليس صدوره عن النبي صلى الله عليه و آله ۶ . ومن أجل الوقوف على مفاد الحديث ينبغي تحديد المراد بلفظ «الجاهليّة» الوارد فيه .
إنّ عصر الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله في منظار الثقافة الإسلامية هو عصر العلم، بينا يعتبر العصر الذي سبقه عصر الجاهليّة ، بمعنى أنّ الفترة المتقدّمة على بعثة النبيّ صلى الله عليه و آله كانت فترة غياب لمصادر الإشعاع والهداية التي يمكن للناس من خلالها معرفة حقائق الوجود ، وذلك بسبب التحريف الذي لحق الأديان السابقة ، والذي حوّلها إلى خرافات وأوهام تحكم المجتمعات باسم الدين ، فقد تحوّلت تلك الأديان المحرّفة والعقائد الوهميّة في الواقع إلى وسيلة لهيمنة سلطة القهر والقوّة على الإنسان، وهذه حقيقة يشهد لها تأريخ ما قبل الإسلام أيضا .
لقد مثّل عصر النبيّ صلى الله عليه و آله بداية عصر العلم ، وإنّ أهم المسؤوليّات التي نهض بها النبيّ صلى الله عليه و آله هي اجتثاث الخرافات والتحريفات ، وإظهار الحقائق للناس. لقد كان النبيّ صلى الله عليه و آله يرى مَثَله كمثل الوالد للناس ، يربّيهم ويعلّمهم ، فقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه و آله :
إنَّما أنَا لَكُم مِثلُ الوالِدِ اُعَلِّمُكُم .۷
لقد كان النبيّ صلى الله عليه و آله يطرح نبوّته على أنّها ظاهرة تنطبق والمعايير العقليّة والعلميّة، بحيث يتسنّى معها للعلماء وبسهولة ـ لو شاؤوا ـ معرفة صدقه في دعواه في الارتباط بمبدأ الوجود الأعلى :
« وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ » . ۸
لقد كان صلى الله عليه و آله يحذّر الناس بشدّة من اتّباع ما ليس للإنسان فيه علم ولا يقين ، وكان يتلو عليهم قوله سبحانه:
« وَ لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » . ۹
ومن خلال هذه المقدّمة ، يتّضح لنا بأنّ الهدف من الحديث الذي يشير الى ضرورة معرفة الإمام في كلّ عصر ، يتجاوز الإطار الفردي ، فليس المراد هو أنّ المسلم إذا لم يعرف إمام زمانه سيكون غير مسلم في الواقع ، وأنّ إسلامه وكفره سواء حينئذٍ ، بل الأمر الأهمّ الذي يشير له هذا الحديث هو أنّ عصر العلم ـ الذي ابتدأ ببعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ـ لا يمكن أن تكتب له الاستمراريّة ، إلّا اذا عرف المسلمون في كلّ زمان إمامهم واقتدوا به .
ومجمل الكلام : إنّ الإمامة هي الضمانة لاستمرار عصر العلم أو عصر الإسلام الحقّ، وبدون هذه الضمانة سيؤول مصير المجتمع إلى جاهلية ما قبل الإسلام ، ويستوحي هذا الحديث مضمونه ـ في الواقع ـ من الآية الكريمة التي تستشرف المستقبل حيث تقول:
« وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـبِكُمْ » . ۱۰
لقد بيّن النبي صلى الله عليه و آله في بعض الروايات التي يؤكّد فيها ضرورة معرفة الإمام ، كيف أنّ المجتمع الإسلامي يمكن أن يرجع إلى جاهليّة ما قبل الإسلام .
إنّ كلام الرسول صلى الله عليه و آله في هذا الحديث يُعبّر عن توقّع حصول مثل هذا الخطر فيما لو تمّ مصادرة مسألة الإمامة والقيادة.

1.الكافي : ج ۲ ص ۲۰ ح ۶ .

2.مسند ابن حنبل : ج ۶ ص ۲۲ ح ۱۶۸۷۶ .

3.راجع : سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة : ج ۱ ص ۵۲۵ ح ۳۵۰.

4.صحيح مسلم : ج ۳ ص ۱۴۷۸ ح ۵۸ .

5.شرح نهج البلاغة : ج ۱۳ ص ۲۴۲ .

6.قال العلّامة الأميني: «هذه حقيقة راهنة أثبتتها الصحاح والمسانيد فلا ندحة عن البخوع لمفادها، ولا يتمّ إسلام مسلم إلّا بالنزول لمؤدّاها، ولم يختلف في ذلك اثنان، ولا أنّ أحدا خالجه في ذلك شكّ، وهذا التعبير ينمّ عن سوء عاقبة من يموت بلا إمام وإنّه في منتأىً عن أيّ نجاح وفلاح، فإنّ ميتة الجاهليّة إنّما هي شرّ ميتة، ميتة كفر وإلحاد (الغدير : ج ۱۰ ص ۳۶۰) .

7.مسند ابن حنبل : ج ۳ ص ۵۳ ح ۷۴۱۳ ،سنن النسائي : ج ۱ ص ۳۸ ، سنن ابن ماجة : ج ۱ ص ۱۱۴ ح ۳۱۳ .

8.سبأ : ۶ .

9.الإسراء: ۳۶.

10.آل عمران: ۱۴۴.


حكم النّبيّ الأعظم ج2
604
  • نام منبع :
    حكم النّبيّ الأعظم ج2
    المجلدات :
    7
    الناشر :
    دار الحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1429 ق/1387 ش
    الطبعة :
    الاولی
عدد المشاهدين : 169460
الصفحه من 686
طباعه  ارسل الي