بيعة يزيد في الشام وقتل الحسن السبط دونها
لمّا اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق ـ بإحضارٍ منه ـ وكان فيهم الأحنف بن قيس ، دعا معاوية الضحّاك بن قيس الفهري فقال له :
إذا جلستُ على المنبر وفرغتُ من بعض موعظتي وكلامي فاستأذنّي للقيام ، فإذا أذنت لك ، فاحمد اللّه تعالى واذكر يزيد ، وقل فيه الّذي يحقُّ له عليك من حسن الثناء عليه ، ثمّ ادعُني إلى توليته من بعدي ، فإنّي قد رأيت وأجمعت على توليته ، فأسأل اللّه في ذلك وفي غيره الخيرة وحسن القضاء .
ثمّ دعا عبد الرّحمن بن عثمان الثقفي ، وعبداللّه بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبداللّه بن عصام الأشعري ، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحّاك وأن يصدّقوا قوله ويدعوه إلى [بيعة] ۱ يزيد . ۲
ثمّ خطب معاوية ، فتكلّم القوم بعده على ما يروقه من الدعوة إلى يزيد ، فقال معاوية : أين الأحنف ؟ فأجابه ، قال : ألا تتكلّم ؟ فقام الأحنف ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال :
أصلح اللّه أمير المؤمنين ، إنّ الناس قد أمسوا في مُنكَرِ زمانٍ قد سلف ، ومعروفِ زمانٍ مؤتَنَفٍ ۳
، ويزيد ابن أمير المؤمنين نِعم الخلف ، وقد حَلِبتَ الدّهر أشطُرَهُ ۴ يا أمير المؤمنين ! فاعرف من تسند إليه الأمر من يدك ، ثمّ اعصِ أمرَ من يأمرك ، لا يَغرُرك مَن يُشير عليك ولا ينظر لك ، وأنت أنظر للجماعة وأعلم باستقامة الطاعة ، [مع] ۵ أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّا .
فغضب الضحّاك ، فقام الثانية فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال :
أصلح اللّه أمير المؤمنين، إنّ أهل النفاق من أهل العراق ، مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، وإلفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحقّ على أهوائهم كأنّما ينظرون بأقفائهم ۶ ، اختالوا جهلاً وبطرا ، لا يرقبون من اللّه راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتّخذوا إبليس لهم ربّا ، واتّخذهم إبليس حزبا ؛ فمن يقاربوه لا يسرّوه ، ومَن يفارقوه لا يضرّوه ، فادفع رأيهم ـ يا أمير المؤمنين ـ في نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان اللّه الّذي استخلف به معاوية في أرضه ؟ ! هيهات ! ولا تورث الخلافة عن كَلالَةٍ ۷ ، ولا يُحجَب غير الذكَرِ العَصَبَة ۸ ، فوطّنوا أنفسكم ـ يا أهل العراق ـ على المناصحة لإمامكم وكاتب نبيّكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الآجل .
ثمّ قام الأحنف بن قيس ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال :
يا أمير المؤمنين ، إنّا قد فررنا ۹ عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدّها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت أنّك لم تفتح العراق عنوةً ۱۰ ، ولم تظهر عليها قَعصا ۱۱ ، ولكنّك أعطيت الحسن بن عليّ من عهود اللّه ما قد علمت ؛ ليكون له الأمر من بعدك ، فإن تفِ فأنت أهل الوفاء، وإن تغدر ۱۲ تعلم واللّه أنّ وراء الحسن خيولاً جيادا ، وأذرُعا شدادا ، وسيوفا حدادا، إن تَدنُ له شبرا من غدرٍ ، تجد وراءه باعا ۱۳ من نصر ، وإنّك تعلم أنّ أهل العراق ما أحبّوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليّا وحسنا منذ أحبّوهما ، وما نزل عليهم في ذلك خبرٌ ۱۴ من السماء ، وإنّ السيوف الّتي شهروها عليك مع عليّ يوم صفّين لعلى عواتقهم ، والقلوب الّتي أبغضوك بها لَبين جوانحهم ، وايم اللّه ، إنّ الحسن لأحبّ إلى أهل العراق من عليّ .
ثمّ قام عبدالرحمن بن عثمان الثقفي ، فأثنى على يزيد وحثّ معاوية إلى بيعته . فقام معاوية فقال :
أيّها الناس ، إنّ لإبليس من الناس ، إخوانا وخُلّانا ، بهم يستعدّ وإيّاهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رَجوا طمعا أوجفوا ۱۵ ، وإن استُغني عنهم أرجفوا ۱۶ ، ثمّ يُلقحون الفتن بالفجور ، ويُشقّقون لها حطب النفاق ، عيّابون مُرتابون ، إن لَوَوا ۱۷ عروة أمرٍ حنفوا ۱۸ ، وإن دُعوا إلى غيٍّ أسرفوا ، وليسوا اُولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متّعظين حتّى تصيبهم صواعق خزيٍ وبيلٍ ۱۹ ، وتحُلّ بهم قوارِع أمرٍ جليلٍ تجتثّ اُصولهم كاجتثاث اُصول الفقع ۲۰ ، فأولى لاُولئك ثمّ أولى ۲۱ ؛ فإنّا قد قدّمنا وأنذرنا إن أغنى التقدّم شيئا أو نفع النُذر .
فدعا معاوية الضحّاك فولّاه الكوفة ، ودعا عبد الرحمن فولّاه الجزيرة .
ثمّ قام الأحنف بن قيس فقال :
يا أمير المؤمنين ، أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره وسرّه وعلانيته ، ومدخله ومخرجه ، فإن كنت تعلمه للّه رضا ولهذه الاُمّة ، فلا تشاور الناس فيه ، وإن كنت تعلم منه غير ذلك ، فلا تزوّده الدنيا وأنت صائرٌ إلى الآخرة ؛ فإنّه ليس لك من الآخرة إلّا ما طاب ، واعلم أنّه لاحجّة لك عند اللّه إن قدّمت يزيد على الحسن والحسين ، وأنت تعلم من هما وإلى ما هما ، وإنّما علينا أن نقول : «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ »۲۲ . ۲۳
قال الأميني : لمّا حسّ معاوية ـ بَدءَ إعرابِهِ ۲۴ عمّا رامه من البيعة ليزيد ـ أنّ الفئة الصالحة من الاُمّة قطّ لا تُخبِتُ ۲۵ إلى تلك البيعة الوبيلة ما دامت للحسن السبط الزكيِّ ـ سلام اللّه عليه ـ باقيةٌ من الحياة ، على أنّه أعطى الإمام مواثيق مؤكّدة ليكون له الأمر من بعده ، وليس له أن يعهد إلى أيّ أحدٍ ، فرأى توطيد السبل لِجُروه ۲۶ في قتل ذلك الإمام الطاهر ، وجعل ما عهد له تحت قدميه .
قال أبو الفرج :
أراد معاوية البيعة لابنه يزيد ، فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن عليّ عليه السلام وسعد بن أبي وقّاص ، فدسّ إليهما سمّا فماتا منه .
وسيوافيك تفصيل القول في أنّ معاوية هو الّذي قتل الحسن السبط سلام اللّه عليه . ۲۷
1.ما بين المعقوفين أثبتناه من الإمامة والسياسة .
2.الإمامة والسياسة : ج ۱ ص ۱۸۸ .
3.اُنْفَةُ الشيء : ابتداؤه (النهاية : ج ۱ ص ۷۵ «أنف») .
4.يقال : حَلَبَ فلانٌ الدهرَ أشطُرَه : أي اختبر ضروبه من خيره وشرّه ، تشبيها بحلب جميع أخلاف الناقة (النهاية : ج ۲ ص ۴۷۴ «شطر») .
5.ما بين المعقوفين أثبتناه من الإمامة والسياسة .
6.القفا ـ مقصور ـ : مؤخّر العنق ، يذكّر ويؤنّث (الصحاح : ج ۶ ص ۲۴۶۵ «قفا») .
7.الكَلالة : هو أن يموت الرجل ولا يدع والدا ولا ولدا يرثانه (النهاية : ج ۴ ص ۱۹۷ «كلل») .
8.العَصَبة : الأقارب من جهة الأب ، لأنّهم يُعصّبونه ويعتصّبُ بهم (النهاية : ج ۳ ص ۲۴۵ «عصب») .
9.فَرَرْتُ عن الأمر : بحثت عنه (الصحاح : ج ۲ ص ۷۸۰ «فرر») .
10.عَنوة : أي قهرا وغلبة (النهاية : ج ۳ ص ۳۱۵ «عنا») .
11.القعْصُ : أن يُضرَب الإنسان فيموت مكانه (النهاية : ج ۴ ص ۸۸ «قعص») .
12.في الطبعة المعتمدة : «تعذر» ، وهو تصحيف ظاهر .
13.الباعُ : قَدْرُ مدّ اليدين (القاموس المحيط : ج ۳ ص ۷ «بوع») .
14.في الإمامة والسياسة : «غير من السماء» .
15.الإيجاف : سرعة السير . وقد أوجف دابّة يوجفها إيجافا : إذا حثّها (النهاية : ج ۵ ص ۱۵۷ «وجف») .
16.أرجف القومُ : خاضوا في أخبار الفتن ونحوها (القاموس المحيط : ج ۳ ص ۱۴۳ «رجف») .
17.في الإمامة والسياسة : «إن ولوا» .
18.الحنف : الاعوجاج في الرجل (الصحاح : ج ۴ ص ۱۳۴۷ «حنف») .
19.وَبيل : أي شديد (لسان العرب : ج ۱۱ ص ۷۲۰ «وبل») .
20.الفَقْعُ : البيضاء الرخوة من الكمأة (القاموس المحيط : ج ۳ ص ۶۴ «فقع») .
21.أولى لك : قاربَكَ ما تكره (لسان العرب : ج ۱۵ ص ۴۱۱ «ولي») .
22.البقرة : ۲۸۵ .
23.الإمامة والسياسة : ج ۱ ص ۱۹۱ .
24.أعرب بحجّته : أي أفصح بها ولم يتّق أحدا (الصحاح : ج ۱ ص ۱۷۹ «عرب») .
25.الإخبات : الخشوع والتواضع (لسان العرب : ج ۲ ص ۲۸ «خبت») .
26.الجرو : ولد الكلب (الصحاح : ج ۶ ص ۲۳۰۱ «جري») .
27.مقاتل الطالبيّين : ص ۸۰ .