وقد بلغ تدهور الحياة السياسية في بغداد مبلغاً عظيماً باستفحال أمر الخدم وربّات الحجال في التدخّل بشؤون الدولة وسياستها بحيث صار تنصيب الوزراء وعزلهم بأيديهنّ خصوصاً اُمّ المقتدر التي كانت ذات سطوة كبيرة يحسب لها الوزراء والقوّاد والأعيان ألف حساب! ويكفي أنّ تنصيب الوزراء وعزلهم بلغ اثنتي عشرة مرّة في عصر المقتدر فقط. فكانت دولته ذات تخليط كبير، وكما يقول ابن الطقطقي (ت/ 709هـ ): «خربت الدنيا في أيامه، وخَلَتْ بيوت الأموال، واختلفت الكلمة» ۱ .
وإلى جانب هذا الانهيار السياسي فقد تعرّضت بغداد نفسها لمخاطر الاجتياح المرتقب في ذلك الوقت من الحدود المتاخمة لها من كلّ صوب؛ لكثرة الحركات الانفصالية عن الدولة التي كوَّنت كيانات قويّة هدّدت بغداد مرّاتٍ عديدة، كحركة القرامطة التي فتكت بجيش الحاكم العباسي فتكاً ذريعاً، حتى اضطرّت السلطة إلى تعطيل قوافل الحجّ سنوات طويلة، كلّ ذلك خشية من فتك القرامطة ومجازرهم الرهيبة ۲ .
وبالجملة، فإنّ فقدان الاستقرار السياسي في بغداد فقداناً تامّاً كان من أبرز معالم الحياة السياسية في ذلك العصر الذي عاشه الكليني رحمه الله . ويكفي أن جعلت الانتكاسات الخطيرة التي مرّت بها الحياة السياسية في بغداد، الطريق ممهّداً لدخول البويهيّين إلى بغداد سنة 334هـ بعد وفاة الكليني رحمه الله بخمس سنوات.
والحقّ، إنّ هجرة الكليني من الري وهي في قبضة السامانيين، إلى بغداد ـ قبل سنة (310هـ ) ـ وهي في قبضة الأتراك، إنّما كانت هجرةً علميّة خالصة
1.الفخري في الآداب السلطانية لابن الطقطقي : ۲۶۲.
2.تجارب الاُمم ۱ : ۱۲۰، فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي ۱ : ۳۵۳، وصبح الاعشى للقلقشندي ۴ : ۱۶۸، وانظر: قرامطة العراق لمحمّد فتاح عليان.