لا دخل لأيّ شي ء غير علميّ فيها بأيّ شكل من الأشكال. واختيار بغداد بالذات ما كانَ اعتباطاً، وإنّما لاعتبارات علميّة كثيرة ولعلّ في مقدمتها شهرة بغداد من الناحية العلمية، إذ لا تكاد تجد عالماً شيعيّاً أو سُنياً إلّا وقد وفد إلى بغداد في ذلك العصر لاعتبارها من أرقى مراكز العلم والدين في ذلك الحين، إذ لم تؤثر الأحداث السياسيّة الخطيرة على تطوّر الفكر في بغداد أو تشلّ حركته، بل حصل العكس تماماً، حيث بلغت علوم الشريعة واللغة والأدب والفلك والطب والجغرافية والتاريخ قمّتها على أيدي العلماء الوافدين إلى بغداد من كلّ مصر، حتى أصبحت في عصر الكليني بالذات من أهمّ مراكز الإشعاع الفكريّ في العالم الإسلاميّ، وصارت مُنتدى العلماء والفقهاء والمفكّرين، وتنوّعت فيها الثقافة، وسادت بها آراء المذاهب، وتوسّعت فيها ألوان الدراسة فشملت أبواب العلوم والمعارف المختلفة لا سيّما علوم الشريعة الغرّاء، ولا زالت مؤلّفات بغداد في ذلك العصر تكوّن أهم مصادر البحث الأساسية في علوم الشريعة إلى اليوم ۱ .
وحسب بغداد أن تتوجّه إليها الشيعة من كلّ مكان في عصر الكليني بالذات مع ترقّبهم لما يخرج على أيدي أركانها الأربعة من وصايا إمام العصر عليه السّلام .
لقد تركت الحياة الفكرية والعلمية في مركزي العلم والدين (الري وبغداد) آثارها الواضحة على ثقافة الكليني كما نلحظه في طيّات كتابه الخالد (الكافي) الذي استوعب فيه مختلف الأنشطة الفكرية، فحاول اختيار ما يمثّل وجهة النظر الإسلامية الصائبة إزاء ما اُثير في عصره من مسائل العقيدة والاُمور الاُخرى، وينتخب منه اللُبّ الذي يمثل روح الشريعة الغرّاء، عسى أن تقف عليه أجيال المسلمين فتجده غضّاً مع تقادم الملوان، كلّ ذلك مقروناً بالإسناد الذي هو حجته ودليله وبرهانه.
1.راجع الشيخ الكليني البغدادي وكتابه الكافي ـ الفروع : ۴۶-۶۳.