وهذين» فاعتزل بهما ، ثم أقبل عليهما ، فقال : إنّ الرائد لا يكذب أهله ، وأنا لكما حقّ نصيح ، وعليكما جدّ شفيق ، فإن نظرتما لأنفسكما نجيتما ، وإن تركتما ذلك هلكتما وأهلكتما . قالا : أنت الناصح جَيْباً ۱ المأمون عَيْباً ، فهات .
قال : أتعلمان أنّه ما باهلَ قومٌ نبيّاً قطّ إلاّ كان مهلكهم كلمح البصر ، وقد علمتما ـ وكلّ ذي أرب من ورثة الكتب معكما ـ أن محمّداً أبا القاسم هذا هو الرسول الذي بشَّرت به الأنبياء (عليهم السلام) وأفصحت بنعته وأهل بيته الأمناء ، وأخرى أنذركما بها فلا تعشوا عنها . قالا : وما هي يا أبا المثنى ؟
قال : انظرا إلى النجم قد استطلع على الأرض ، وإلى خشوع الشجر ، وتساقط الطير بإزائكما لوجوهها ، قد نشرت على الأرض أجنحتها ، وقاءت ما في حواصلها ، وما عليها لله عزّ وجلّ من تبعة ، ليس ذلك إلاَّ لما قد أظلَّ من العذاب ، وانظرا إلى اقشعرار الجبال ، وإلى الدخان المنتشر ، وقزع السحاب ، هذا ونحن في حمّارَّة القيظ وإبّان الهجير ، وانظروا إلى محمّد (صلى الله عليه وآله) رافعاً يده والأربعة من أهله معه إنّما ينتظر ما تجيبان به . ثمّ اعلموا أنّه إن نطق فوه بكلمة من بهلة ، لم نتدارك هلاكاً ، ولم نرجع إلى أهل ولا مال .
فنظرا ، فأبصرا أمراً عظيماً ، فأيقنا أنّه الحقّ من الله تعالى ، فزلزلت أقدامهما ، وكادت أن تطيش عقولهما ، واستشعرا أن العذاب واقعٌ بهما .
فلمّا أبصر المنذر بن علقمة ما قد لقيا من الخيفة والرهبة ، قال لهما : إنّكما إنْ أسلمتُما له سَلِمْتُما ۲ في عاجلة وآجلة ، وإنْ آثرتُما دينكما ، وغضارة أيكتكما ۳
1.يقال : رجل ناصح الجيب . أي أمين ، كما في الصحاح ۱/۱۰۴ ، وفي كتاب العين ۱/۲۵۰ : ناصح الصدر ، وفي ۲/۱۱۹ : ناصح القلب أو تقية ، كما في الصحاح ـ أيضاً ـ ۱/۴۱۱ .
2.في طبعة ( ق ) : أسلمتها له سلمتها .
3.الغضارة : طيب العيش ، كما في مجمع البحرين ۳/۳۱۵ ، وغضارة الأيك : طراوتها . والأيك : الشجر الملتفّ . وفي القاموس ۳/۲۹۳ : الأيك : الشجر الكثير ، والواحدة : أيكة . ولاحظ : الصحاح ۴/۱۵۷۳ ، ومجمع البحرين ۱/۱۳۹ . وغيرهما.