الرعاية لحال البداية في علم الدراية - صفحه 154

(فالثاني) وهو الكذب . وبذلك ظهر وجه الحصر .
و لا يرد على الأوّل مثل قول من قال : «محمّد ومُسيلمة صادقان» ؛ فإنّه صادق من إحدى الجهتين ، وكاذب من أُخرى ؛ لأنّا إن جعلناه خبرا واحدا فهو كاذب ، وإن جعلناه خبرين ـ كما هو الظاهر ـ فهو صادق في أحدهما ، كاذب في الآخر .
و نبّه بقوله : «في الأصحّ» على خلاف الجاحظ ؛ حيث أثبت فيه واسطةً بينهما ، وشَرَط في صدق الخبر مع مطابقته للواقع : اعتقادَ المخبرِ أنّه مطابق ، وفي كذبه مع عدم مطابقته له : اعتقادَ أنّه غير مطابق ، وما خرج عنهما فليس بصدق ولا كذب .
و تحرير كلامه : أنّ الخبر إمّا مطابق للواقع أو لا ، وكلّ منهما إمّا مع اعتقاد أنّه مطابق ، أو اعتقاد أنّه غير مطابق ، أو بدون الاعتقاد ؛ فهذه ستّة أقسام :
واحد منها صادق ، وهو المطابق للواقع مع اعتقاد أنّه مطابق .
و واحد كاذب ، وهو غير المطابق مع اعتقاد أنّه غير مطابق .
و الأربعة الباقية ـ وهي المطابقة مع اعتقاد اللامطابقة ، أو بدون الاعتقاد ، وعدم المطابقة مع اعتقادها ، أو بدون الاعتقاد ـ ليست بصدق ولا كذب .
فكلٌّ من الصدق والكذب بتفسيره أخصّ منه بتفسير الجمهور .
و استند الجاحظ في قوله إلى قوله تعالى : «أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ»۱ حيث حصر الكفّارُ إخبار النبيّ صلى الله عليه و آله وسلم في الافتراءِ والإخبارِ حالَ الجِنّة ، على سبيل منع الخلوّ . ولا شُبهة في أنّ المراد بالثاني غير الكذب ؛ لأنّهم جعلوه قسيمه ، وهو يقتضي أن يكون غيرَه وغيرَ الصدق أيضا ؛ لأنّهم لا يعتقدون صدقه صلى الله عليه و آله .
و لمّا كانوا من أهل اللسان ، عارفين باللغة ، وقد أثبتوا الواسطة ؛ لزم أن يكون من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب ليكون هذا منه بزعمهم،وإن كان صادقا في نفس الأمر.
و أُجيب : بأنّ الواسطة التي أثبتوها إنّما هي بين افتراء الكذب والصدق ، وهو غير مطلق الكذب ؛ لأنّه تعمّد الكذب ؛ وحيث لا عمد للمجنون كان خبره قسيما للافتراء

1.سورة سبأ (۳۴) : ۸ .

صفحه از 295