شرح حديث "من همّ بحسنة ولم يَعملها..." - صفحه 171

ولكن لمّا كتب عزّ وجلّ على نفسه الرحمة ، اقتضى أن ترسم الطاعة وتثبت لفاعلها ، عند فعلها ، وأن يمهل فاعل المعصية سبع ساعات بعدد دركات جهنّم وأبوابها السبعة ؛ لما علمت من أنّ المعصية مبدؤها شجرة الزقّوم ، ففي كلّ ساعة يصعد دخان المعصية الثائر من تلك الشجرة إلى مرتبة من مراتب نفسه الأمّارة السبع ، فإنّها سبع طبقات ، فإذا بلغت الساعة السابعة ولم تتبع بتوبة تمحوها ، استقرّ فعليّتها في جميع قوى الأمّارة وطبقاتها ، وتتمّ فعليّة ظهور صورة الجهل في مرآة نفسه .
فمعنى كتابتها حينئذٍ هو تمام فعليّة ثبوتها واستقرارها وتصوّر النفس بصورتها وبروزها بها ، فإنّ العقائد والأعمال مادّة تصوّر النفس وتطوّرها ، فهي متكوّنة متصوّرة بصورة أعمالها وعقائدها ، كما دلّت عليه الأخبار المستفيضة من ظهور من خالف الحقّ في النشأة الآخرة بصور الكلاب والقردة والخنازير وغير ذلك ، فإنّ صور العقائد والأعمال الباطلة وحقائقها الغيبيّة من نوع تلك الحقائق ، فإنّ جميع تلك الحقائق شؤون الجهل وتطوّراته ، فهو أصل الجميع الجامع لها ، والكلّ منها بمنزلة الجزئيّات من ذلك الكلّي ؛ فهذا معنى كتابة الأعمال والعقائد ونيّة كلّ فعل من سنخ حقيقته .
وإذا عرفت أنّ أصل الطاعة ومحتدها ومبدأها هو العقل ـ وإليه تعود ، فإنّها صفة فطرة الوجود التي فطر اللّه الناس عليها ، وعليها يولد كلّ مولود ، فهي متحقّقة في جميع مراتب العقل والوجود الفائض بالذات من المعبود ؛ وأنّ المعصية مبدؤها ومحتدها ، وأصلها الجهل وإليه تعود ، فلا تعود إلى اللّه ؛ لأنّ كلّ شيء إنّما يعود إلى ما منه بدأ ، كما دلَّ عليه الأخبار والاعتبار. ولا ينافي هذا أنّها بقضاء من اللّه وقدر ، وإنّما هذا لعدم خروجها وفاعلها عن مُلك اللّه وقبضته ـ عرفت أنّ المعصية مجتثّة لا قرار لها ، وإنّما هي في الحقيقة عدم كمبدئها وعلّتها ، وهو الجهل ، فإنّ حقيقته إنّما هي عدم الوجود ، وأمّا جنود الجهل إنّما حقيقتها عدم ضدّها من جنود العقل . فتأمّل في إفراد الجندين تجد الأمر كما قلناه .
فكذا حقيقة المعصية إنّما هي عدم الطاعة التي هي صفة الوجود ونور العقل ، فهي عدم كأصلها ، وإن كانت كأصلها في مرتبتها شيئا موجودا ، ولكنّه في الحقيقة إنّما هو

صفحه از 188