وبعد أن فرغ صلوات اللّه عليه وآله من سؤال المقامات الثلاثة ـ وهي مقاماته في هذا العالم الأدنى ـ عرج إلى عالمه الأعلى وهو وطنه الأقصى ؛ أعني العالم الاُخروي ، فأخذ يسأل ما فيه ، فجمعه أوّلاً إيماءً إلى عالمه الجمعي ؛ إذ من نوره برزت الحقائق فقال :
(وأسْألُكَ) . أشار بالعطف بالواو ـ التي هي لمطلق الجمع من غير دلالة على تخلّل زمان ـ واختيارها على حرف التراخي ك«ثمّ» إلى أنّه لا مهلة لمن انتقل عن هذه الدار الفانية بينها وبين تلك الدار الباقية ؛ فإنّ من مات قامت قيامته ودخل الجنّة أو النار ، بل في اختيارها على الحرف الناصّ على الترتيب كالفاء إشعار بعدمه حقيقة ؛ فإنّ من في الدنيا فهو في الآخرة «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ»۱ ، غير أنّ ذلك غير ظاهر ، فلا شيء يتخلّل ، والموت أمرٌ عدمي ، ولكنّه أومى بإعادة لفظ السؤال إلى الانفصال الحقيقي في الحقيقة بين الحقيقتين ، فلا يجتمعان ولا يرتفعان ، وهذا الانفصال لا ينافي ذلك الاتّصال ، فكم بين الليل والنهار ، وكم بينهما من المقدار وكلّ منهما غير قارّ ، واعتبروا يا اُولي الأبصار ، وذلك الأمر الجمعي الجامع لمزايا الآخرة.
قوله : (نعيما) ، اسم لما ينعم به ويتفضّل به ، ومثله النعمة كسرا ، والنعمى ضمّا وقصرا ، والنعماء فتحا ومدّا .
ولمّا كان من النعيم ما هو دنيوي ينقطع جنسا وشخصا ؛ إذ «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَا وَجْهَهُ» و «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْاءِكْرَامِ»۲ ومنه ما هو اُخروي لا يَنْفَدُ وهو نعيم دار الجلال ـ أعني الدار الآخرة وهو صلى الله عليه و آله وسلملايفنى ؛ إذ هو وجه اللّه ـ ناسب أن يسأل ما يناسبه من النعيم ، فسأله (نَعيما لاَ يَنْفَدُ) أي لايفنى جنسه وإن فني شخصه ؛ ضرورة أنّ الشخص من الفاكهة ـ مثلاً ـ يفنى بالأكل. هذا إذا كان المراد بالنعيم النعمة الظاهرة المربيّة للبدن العنصري ، وأمّا إذا اُريد به النعمة الظاهرة التي هي العلوم والأسرار التي بها حياة القلوب وهو الأنسب بمقام هذا الداعي صلوات اللّه عليه وآله ، فلا نفاد لشخص منها في الدنيا كان أو في الآخرة ، وتلك العلوم والأسرار من عالم الآخرة وإن كانت في الدنيا ، وحاقّ الالتذاذ بالعلم ـ الذي هو من فواكه دار القرار ـ إنّما
1.التوبة (۹) : ۴۹ .
2.الرحمن (۵۵) : ۲۶ ـ ۲۷ .