هو في هاتيك الدار ، يظهر ذلك من ظهوره شيئا فشيئا على صفحات قلب من أغمض عن تلك اللذّات البدنيّة والشهوات الحيوانيّة التي هي حقيقة الدنيا ، فأهل الآخرة في الآخرة في الدنيا والآخرة ، وأهل الدنيا ومن لاطت بقلوبهم في الدنيا في الآخرة والدنيا ، وهذا اُنموذج من عالم الآخرة ؛ إذ ذاك يبطن الظاهر ، ويظهر الباطن على المشاعر .
وبعد أن جمع صلى الله عليه و آله وسلم مزايا تلك الدار الآخرة في الأمر العامّ الشامل نصّ على بعض مزايا ذلك النعيم ، وهو الابتهاج الذي به يتنعّم في العالم العقلي ، وكنّى عنه بقوله :
(وقُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ) . والقرّة : البرودة ؛ من القرّ بالضمّ البرد ، ومن شأن ذي الفرح برودة العين حتّى أنّ الدمع الحاصل من البكاء في الفرح والسرور يكون باردا ، بخلاف بكاء الحزن ؛ فإنّ دمع العين حينئذٍ يكون حارّا .
ثمّ عاد صلى الله عليه و آله وسلم لعالمه الذي هو فيه ببدن بدنه ـ أعني العالم الدنيوي ـ إيذانا بأنّه صلى الله عليه و آله وسلمفي عروجه هابط لربط هذا الكون ، فصعوده لا ينافي نزوله ، وقربه وإقباله لا ينافي بُعده وإدباره ، ووجهه الإلهي لا يضادّه وجهه الخلقي ؛ إذ هو إلهي أيضا وهو قوله صلى الله عليه و آله وسلم :
(و [أسْألُكَ] الرِّضا بالقَضاءِ).
وفيه من البديع الجناس اللاحق ، وهو ما تشابه فيه اللفظان واختلفا في حرف واحد تباعد المخرج فيهما ، كتفرحون وتمرحون ، وهُمزة ولمزة ، ولو تقارب المخرجان سمّي مضارعا ، كدامس وطامس . وأقسام الجناس كثيرة تُذكر في محلّها .
والمراد بالرِّضا بالقضاء التسليم للّه سبحانه فيما يبديه لعبده نفعا كان أو ضرّا ، يلائم طبع العبد بحسب بشريّته أو ينافره ؛ فعن أبي عبداللّه عليه السلام : «لم يكن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلميقول لشيء قد مضى : لو كان غيره» . ۱
وعنه عليه السلام : بأيّ شيء علم المؤمن أنّه مؤمن؟ قال : «بالتسليم للّه ، والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط» . ۲
1.الكافي ، ج ۲ ، ص ۶۳ ، باب التفويض إلى اللّه ، ح ۱۳ ؛ وسائل الشيعة ، ج ۳ ، ص ۲۵۲ ، ح ۳۵۵۱.
2.المحاسن ، ج ۲ ، ص ۳۲۸ ، ح ۸۵ ؛ الكافي ، ج ۲ ، ص ۶۲ ، باب الرضاء بالقضاء ، ح ۱۲ ؛ وسائل الشيعة ، ج ۳ ، ص ۲۵۱ ، ح ۳۵۵۰.