187
تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1

المقدمات من قضايا صحيحة وفاسدة ، وتمكّن الشيطان من الإضلال والإغواء ووسوس إلى المكلّف ، وخيّل له النتيجة الباطلة ، وأماله إليها ، وزيّنها عنده ، بخلاف ما إذا كانت المقدّمات حقاً كلّها ، فإنه لا يقدِر الشيطانُ على أن يخيّل له ما يخالف العقل الصّريح ؛ ولا يكون له مجال في تزيين الباطل عنده ، ألا تَرَى أنّ الأوّليات لا سبيل للإنسان إلى جَحْدها وإنكارها ، لا بتخييل الشيطان ولا بغير ذلك!
ومعنى قوله : « على أوليائه » ، أي على مَنْ عنده استعداد للجهل ، وتمرّن على اتّباع الهوى ، وزهد في تحقيق الأُمور العقلية على وجهها ، تقليدا للأسلاف ، ومحبّةً لا تّباع المذهب المألوف ، فذاك هو الذي يستولي عليه الشيطان ويضلّه ، وينجو الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى ، وهم الذين يتّبعون محض العقل ، ولا يركنون إلى التقليد ، ويسلُكون مسلك التحقيق ، وينظرون النظر الدقيق ، يجتهدون في البحث عن مقدّمات أنظارهم ، وليس في هذا الكلام تصريح بالجَبْر ، ولا إشعار به على وجه من الوجوه ، وهذا واضح .
واعلم أنّ هذا الكلامَ الذي قاله عليه السلام حقّ إذا تأملته . وإن لم تفسِّره على ما قدمناه من التفسير ، فإنّ الذين ضلّوا من مقلّدة اليهود والنصارى وأرباب المقالات الفاسدة من أهل الملّة الإسلامية وغيرها ، إنما ضلَّ أكثرهم بتقليد الأسلاف ، ومَن يحسنُ الظنّ فيه من الرؤساء وأرباب المذاهب ، وإنما قلّدهم الأتباع ، لما شاهدوا من إصلاح ظواهرهم ، ورفضهم الدنيا وزهدهم فيها ، وإقبالهم على العبادة ، وتمسّكهم بالدِّين ، وأمرهم بالمعروف ونهيهِم عن المنكر ، فقلّدوهم في جميع ما نقل إليهم عنهم ، ووقع الضلال والغلط بذلك ؛ لأنّ الباطل استتر وانغمر بما مازجه من الحقّ الغالب الظاهر المشاهد عِياناً ، أو الحكم الظاهر ، ولولاه لما تروّج الباطل ، ولا كان له قبول أصلاً .

51

الأصْلُ :

۰.ومن كلام له عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابَه عليه السلام
على شريعة الفرات بصِفّين ومنعوهم مِن الماء
قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ ، وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ ؛ أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ


تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
186

50

الأصْلُ :

۰.ومن خطبة له عليه السلامإِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتابُ اللّهِ ، وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً ، عَلَى غَيْرِ دِينِ اللّهِ . فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ ؛ وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ ، انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ ؛ وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ هـذَا ضِغْثٌ ، وَمِنْ هـذَا ضِغْثٌ ، فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ، وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللّهِ الْحُسْنَى .

الشّرْحُ :

المرتاد : الطالب . والضِّغْث من الحشِيش : القبضة منه ، قال اللّه تعالى : « وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثا »۱ .
يقول عليه السلام : إنّ المذاهب الباطلة والآراء الفاسدة التي يفتتِن الناس بها ، أصلُها اتّباع الأهواء ، وابتداع الأحكام التي لم تعرف يخالف فيها الكتاب ، وتحمل العصبيّة والهوى على تولّي أقوام قالوا بها ، على غير وثيقة من الدّين . ومستندُ وقوع هذه الشبهات امتزاجُ الحقّ بالباطل في النّظر الذي هو الطريق إلى استعلام المجهولات ، فلو أنّ النظر تُخَلّص مقدماته وتُرتَّب قضاياه من قضايا باطلة ، لكان الواقع عنه هو العلم المحض ، وانقطع عنه ألسن المخالفين ، وكذلك لو كان النظرُ تخلص مقدماته من قضايا صحيحة ، بأن كان كله مبنيّا على الفساد ، لظهر فسادُه لطلبة الحقّ ، وإنما يقع الاشتباه لامتزاج قضاياه الصادقة بالقضايا الكاذبة .
فإن قيل : فما معنى قوله عليه السلام : « فهنالك يستولى الشيطان على أوليائه ، وينجُو الّذين سبقتْ لهم من اللّه الحسنى » ، أليسَ هذا إشعارا بقول المجبِّرة وتلويحا به؟
قيل : لا إشعار في ذلك بالجبر ، ومراده عليه السلام أنه إذا امتزج في النظر الحقّ بالباطل ، وتركبت

1.سورة ص ۴۴ .

  • نام منبع :
    تهذيب شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1
    المجلدات :
    2
    الناشر :
    دارالحدیث للطباعة و النشر
    مکان النشر :
    قم المقدسة
    تاریخ النشر :
    1426 ق / 1384 ش
    الطبعة :
    الاولي
عدد المشاهدين : 86552
الصفحه من 712
طباعه  ارسل الي